12-21-2014, 07:19 PM
|
|
|
|
المزاح والضحك في منهاج التربية النبوية
قال النبي « لاَ تُكْثِرُوا الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ » (1)
أما المزاح فهو المداعبة والملاطفة والمؤانسة وتطييب الخواطر وإدخال السرور على البشر.
وأما الضحك فهو أمر جبلي طبعي، أي متعلق بالجبلة التي خلق الله الناس عليها [وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى] (2)
ولكل منهما حظ وفير في منهج التربية الإسلامية، فالمسلم غير مطالب بأن يكون عبوسا خشنا مكفهر الوجه يسأم منه جليسه، ويسيطر الملل على حديثه، وتغلب الكآبة طلعته ومنطقه وتصوره
[فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا] (3)
بل إن الضحك من نعيم أهل الجنة [فَاليَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ] (4)
ومن وصايا الرسول « تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ » (5)
وقال « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ » (6)
لقد بُني الإسلام على الوسطية والاعتدال في كل أمره، في العبادات والعقائد والأخلاق والسلوك، ومكارم الأخلاق كل صفة وسط بين طرفين مذمومين ، والمؤمن يجسد هذه الوسطية في حياته أقوالا وأفعالا، فلا هو تقتير ولا هو تبذير، لا هو في بؤس وكآبة وسوء منظر ووجه عابس ونفس قانطة وملل وتشاؤم، ولا هو مزاح بالصدق والكذب وضحك متواصل ونفس لاهية وقلب غافل وقهقهة مستمرة.
قال الإمام النووي رحمه الله "المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله يفعله على الندرة لمصلحة تطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهو سُنّة مستحبة فاعلم هذا، فإنه مما يعظم الاحتياج إليه "(7)
وقال ابن تيمية رحمه الله " فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة "
ولنرى كيف ربى النبي أصحابه على هذا التوسط والاعتدال، وكيف رباهم على بشاشة الوجه وحسن المنطق والحرص على الابتسامة في وجه المسلم، لما لها من سحر رباني في تأليف القلوب، وقبول النفس، ونشر المودة وتعميق أواصر الأخوة، والاتصال القلبي بين المسلمين .
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي.
قَالَ النَّبِي « إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ »
قَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ « وَهَلْ تَلِدُ الإِبِلَ إِلاَّ النُّوقُ »
(8 )وقال أَنَسٍ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ « يَا ذَا الأُذُنَيْنِ » يمازحه (9)
وعن أنس أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام قال: وكان النبي يحبه وكان دميما، فأتاه النبي يوما وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصر فقال: أرسلني من هذا ؟ فالتفت فعرف النبي ، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي حين عرفه، وجعل النبي يقول« من يشتري العبد ؟ »
فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا، فقال النبي « لكن عند الله لست بكاسد » أو قال « لكن عند الله أنت غال » (10)
ومما يُروى أن امرأة عجوز جاءت إلى النبي فقالت: يا رسول الله أدع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال لها يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، فانزعجت المرأة وبكت ظنا منها أنها لن تدخل الجنة، فلما رأى ذلك منها بين لها غرضه أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزا، بل ينشئها الله تعالى خلقا آخر فتدخلها شابا بكرا، وتلا قول الله تعالى [إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ] (11)
وعن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله إنك تداعبنا، فقال « إني لا أقول إلا حقا » (12)
وكان من أصحاب رسول الله رجل من الأنصار يُدعى نعيمان بن عمرو بن رافع، وهو من أهل بدر، وكان رجلا كثير المزاح، طيب النفس، حلو الفكاهة، وكان كثيرا ما يمازح رسول الله وأصحابه، فمن مواقفه ما رواه الإمام أحمد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فِي تِجَارَةٍ إِلَى بُصْرَي قَبْلَ مَوْت النَّبِيِّ بِعَامٍ وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ وَكَانَا شَهِدَا بَدْرًا وَكَانَ نُعَيْمَانُ عَلَى الزَّادِ وَكَانَ سُوَيْبِطٌ رَجُلاً مَزَّاحًا فَقَالَ لِنُعَيْمَانَ أَطْعِمْنِي.
قَالَ حَتَّى يَجِيءَ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ فَلأُغِيظَنَّكَ.
قَالَ فَمَرُّوا بِقَوْمٍ فَقَالَ لَهُمْ سُوَيْبِطٌ تَشْتَرُونَ مِنِّى عَبْدًا لِي ؟
قَالُوا نَعَمْ. قَالَ إِنَّهُ عَبْدٌ لَهُ كَلاَمٌ وَهُوَ قَائِلٌ لَكُمْ إِنِّي حُرٌّ. فَإِنْ كُنْتُمْ إِذَا قَالَ لَكُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَرَكْتُمُوهُ فَلاَ تُفْسِدُوا عَلَىَّ عَبْدِي. قَالُوا لاَ بَلْ نَشْتَرِيهِ مِنْكَ. فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُ بِعَشْرِ قَلاَئِصَ ثُمَّ أَتَوْهُ فَوَضَعُوا فِي عُنُقِهِ عِمَامَةً أَوْ حَبْلاً.
فَقَالَ نُعَيْمَانُ إِنَّ هَذَا يَسْتَهْزِئُ بِكُمْ وَإِنِّي حُرٌّ لَسْتُ بِعَبْدٍ. فَقَالُوا قَدْ أَخْبَرَنَا خَبَرَكَ. فَانْطَلَقُوا بِهِ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ. قَالَ فَاتَّبَعَ الْقَوْمَ وَرَدَّ عَلَيْهِمُ الْقَلاَئِصَ وَأَخَذَ نُعَيْمَانَ.
قَالَ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ وَأَخْبَرُوهُ. قَالَ فَضَحِكَ النَّبِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْهُ حَوْلاً. (13)
كان نعيمان الأنصاري شديد الحب لرسول الله وكان لا يدخل المدينة فاكهة إلا اشترى منها، ثم جاء بها إلى النبي ، فقال يا رسول الله هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمنه، جاء به إلى النبي ، فقال يا رسول الله أعط هذا ثمن متاعه .فيقول النبي أولم تهده لي ؟
فيقول يا رسول الله إنه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله فيضحك رسول الله ويأمر لصاحبه بثمنه. (14)
ومن نوادره أن أعرابيا دخل على رسول الله وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي لنعيمان الأنصاري لو عقرتها فأكلناها وغرّم رسول الله فإنا قد اشتهينا اللحم، فعقرها النعيمان، وخرح الأعرابي فرأى راحلته فصاح واعقراه يا محمد، فخرج رسول الله فقال من فعل هذا؟ قالوا النعيمان فاتبعه ليسأل عنه حتى وجده في دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وقد حفرت لها خنادق وعليها جريد، فدخل النعيمان في بعضها، فمر رسول الله يسأل عنه، فأشار إليه رجل ورفع صوته، ما رأيته يا رسول الله وأشار بأصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله وقد سقط على وجهه السعف وتغير وجهه، فقال ما حملك على ما صنعت؟ قال الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني . فجعل رسول الله يمسح عن وجهه ويضحك ثم غرّمها رسول الله للأعرابي (15)
وهذا المزاح لم يكن قاصرا على أصحابه دون أهل بيته، وإنما كان رسول الله بشوشا باسما يدخل البهجة على أهل بيته، ويغمر مجلسه البسمة والسرور، يقبل منهم المزاح ويشاركهم الضحك، فها هي عائشة تروي خبرا من بيت النبوة فتقول: زارتنا سودة يوما فجلس رسول الله بيني وبينها، إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها، فعملت لها حريرة فقلت كلي فأبت .
فقلت لتأكلي أو لألطخن وجهك، فأبت فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها فرفع رسول الله رجله من حجرها تستقيد مني، فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي ورسول الله يضحك فإذا عمر يقول يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر فقال لنا رسول الله " قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلا " (16)
فهذا هو هديه مع أهل بيته، ثم يوجه أصحابه إلى هذا الهدي وهذه الأخلاق فيقول « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي » (17)
هكذا كان الضحك عند رسول الله ، وعند أصحابه، وعند أمهات المؤمنين، ضحك يدفع عن القلب الكآبة والحزن إلا أنه ليس لهوا صاخبا ولا عبثا وهزل وسخرية، فلا الكآبة مطلب، ولا كثرة الضحك مطلب، وإنما التوسط والاعتدال، فكثرة الضحك دليل على السفه وخفة العقل، فقد كان رسول الله يضحك ويمزح، ولكن لا يقول إلا صدقا، ولا ينطق إلا حقا، وكان يقول« وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ » (18)
وقال « أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ » (19)
كان رسول الله يضحك ويمزح، ولكن ليس ضحكا سافرا، ولا هزل يفقد الإنسان هيبته ووقاره، ولا يذهب نبض الحياة عن القلوب فتغفل عن غاياتها، قال « لاَ تُكْثِرُوا الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ » (20)
إنه موت عن النبض بذكر الله، والتدبر في آياته والشكر على نعمه، والاتعاظ بأحوال الخلق وآيات الخالق وحكمه.
كان رسول الله يمزح ويضحك، ولا يزيد عن الابتسامة حتى تبدو نواجذه « فَضَحِكَ النَّبِيُّ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ » (21)
كان رسول الله يمزح ويضحك؛ ليطرد السآمة، ويدفع الملل، وينشر البهجة في مجلسه، ويرسم البسمة على وجوه أصحابه، إلا أنه لا ينسيهم غايتهم الكُبرى وهدفهم الأسمى، إنه الله وحقه على العباد، إنها رسالة الإسلام وهمُّ دعوتها........
جاء حنظله الأسيدي ـ وهو من كتبة الوحي ـ إلى رسول الله وقد بدا الحزن على وجهه، إنه لم يحزن لهم من هموم الدنيا، وإنما لهم قد حرك مشاعره الدفينة، وأشعره بالنقص تجاه هذا الدين وهذه الرسالة فقال: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ « وَمَا ذَاكَ »قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْىَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. (22)
ساعة وساعة، روحوا القلوب وادفعوا عنها الملل، ولكن: لا يدفع الملل بمعصية الله، ولا بانتهاك حرمات الله، ولا بالاستهزاء بالدين وتعاليمه، ولا بالاستهزاء والسخرية من خلق الله، ولا بالكذب والبهتان والزور والإفك، ولا بترويع المسلمين، ولا بالغمز واللمز والغيبة والنميمة، ولا بضحك يذهب الهيبة والوقار ويجريء عليك الحمقى والسفهاء، ولا بانتقاص قدر الناس والتطاول عليهم، ولا بالنيل من العلماء والحكام.
فإياك أن تدخل البهجة على قلبك بشقاء غيرك، أو بإيذائهم .
وكم هي بعيدة تلك الضحكات التي منبعها الاستهزاء بالناس والسخرية منهم
وكم هم أشقياء من زينوا وجوههم ببسمات ساخرة قد أكسبت قلوبهم القسوة
ولتتأمل كيف فهم الصحابة ومن تربوا على أيديهم معنى المزاح، لقد صاغوا ما فهموه في كلمات قلائل، إلا أنها أشبه بقوانين يسير عليها كل من أراد التشبه بهم....
قال عمر بن الخطاب "من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به"
وقال سعد بن أبي وقاص "اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء"
وسُئل ابن عمر ـ رضي الله عنهماـ "هل كان أصحاب رسول الله يضحكون؟
قال : نعم ، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال
وقال عمر بن عبد العزيز "اتقوا المزاح، فإنه يذهب المروءة"
وسُئل سفيان بن عيينة : المزاح هجنة ؟ أي مستنكر
فأجاب قائلا "بل هو سنة، لكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه".
hgl.hp ,hgqp; td lkih[ hgjvfdm hgkf,dm hglsh[ hgjvfdm hgkf,dm
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 07:51 AM
|