إن الناس قد اشتبهوا في المشاهدات وغيرها من المحسوسات، وأنكر السوفسطائية منهم حقائق الأشياء، وطفقوا يشككون الناس في ذلك قائلين: كيف نثق بما نراه، وقد ظهر لنا الغلط في بعضه، ويجوز على بعض المتساويين ما جاز على الآخر.
مثلًا إننا نرى العود مستقيمًا خارج الماء ونراه معوجًّا في الماء، ونرى النجم صغيرًا وكلنا يعلم أنه كبير، ويذوق من يسمونه الصفراوي العسل مرًّا ويذوقه غيره حلوًا، ويرى المحموم أو النائم أمامه أشياء كثيرة يقول من في حضرته: إنها لا وجود لها.
فأمثال هؤلاء إذا كانوا يشكون أو يشككون في وجود الله تعالى لا ينفع معهم دليل ولا برهان. وأما طالب الحقيقة فهو الذي لا يشتبه في الحق إلا لعارض يصرفه عن الدليل، فإذا نبه إليه تنبه ورجع. ومن الناس من يسهل تنبيهم وهم أصحاب الأفكار المستقلة، ومنهم من يتعذر أو يتعسر تنبيهه على حسب بعده من التقليد وقربه من استقلال الفكر.
وفي المشتغلين بالعلم والفلسفة من المقلدين نحو ما في المشتغلين بعلم الدين، فإن أحدهم يسمع أو يقرأ أن فلانًا الفيلسوف، الذي يعجب به قال: إنه لم يثبت عندي دليل على وجود الله تعالى، فيقول هذا المقلد له: لو كان هناك دليل قطعي لما خفي على ذلك الفيلسوف. ويكلف نفسه بأن تشك، وترتاب أو تنكر وتفند كل دليل من هذا القبيل.
ذهب بعض العلماء والحكماء إلى أن معرفة الله تعالى فطرية في البشر لا حاجة بهم إلى إقامة الدليل عليها لولا ما أحدثته الاصطلاحات العلمية من البحث في الضروريات والبديهيات كعلم الإنسان وشعوره ووجدانه. واستدلوا على ذلك بأن جميع أصناف البشر من أرقاهم كالأنبياء والحكماء إلى أدناهم كالقبائل الضاربين في معامي الأرض وأغفالها كلهم يعتقدون بقوة غيبية وراء الطبيعة سواء منهم من تعلم شيئًا من صفات ذي القوة، وما يجب له من العبادة ومن لم يتعلم، وبأن المعطلين نفر قليل يعدون من الشواذ، ويحال شذوذهم على مرض عرض على هذا الشعور الفطري كما يعرض للإحساس بالحلاوة مرض يمنع من إدراكها، وكما يعرض لبعض مراكز المخ شيء يحول دون إدراك بعض المعلومات مع سلامة سائر المدارك، فقد ثبت أن بعض الناس نسي بعض أرقام الحساب، فكان لا يحسن عملية حسابية هي فيها ويحسن غيرها، ومثل هذا كثير فلا يقال: إن من المعطلين من لا يشك أحد بسلامة عقولهم، فإن من الناس من يضعف إدراكه لشيء واحد وإن كان قويًّا في غيره، ولم يعرف أحد قويت مداركه في كل فرع من أنواع الإدراك.
وذهب بعضهم إلى أن المسألة نظرية، وأنه لا بد من إقامة البراهين على إثبات وجود البارئ تعالى؛ لأن الأنبياء والحكماء قد استدلوا وأقاموا الحجج على ذلك.
ونقول جمعًا بين القولين: إن المسألة فطرية في الحقيقة، وإن إقامة الأنبياء والحكماء الحجج عليها هي لإصلاح فطرة من عرضت لهم الشبه فيها، كما تعرض في غيرها من الأمور الفطرية والضرورية، ولإزالة غلط المعتقدين بتلك القوة الغيبية، أو بالله تعالى في بعض صفاته، وفي نسبة المخلوقات إليه؛ إذ أشركوا به وجعلوا له وسطاء وشفعاء كالملوك الظالمين؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم: 10] إلخ.
فأشار أولًا إلى أن الإيمان به أمر ثابت في الفطرة لا موضع للشك فيه، ثم ذكر بعض صنعه الدال على قدرته، وانفراده بالتأثير والتدبير، وهو كونه فطر السموات والأرض، أي: شق وفصل بعضها من بعض بعد أن كان الجميع مادة واحدة، إلى آخر ما جاء في الآية.
وإنني وجدت أقرب الدلائل تنبيهًا وإقناعا لعقول المشتغلين بالعلوم العصرية كما ثبت لي بالتجربة والمناظرات معهم هو أن جميع ما نعرفه من الموجودات حادث عندهم، حتى إنهم ليقدّرون للأرض والشمس والكواكب أعمارًا لقطعهم بحدوثها، ثم إنهم قاطعون بأن الموجود لا يصدر عن نفسه، ولا عن معدوم كما قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[٣٥]﴾ [الطور: 35]، فتعين أن يكون لهذه الموجودات كلها مصدر وجودي، ثم إنهم قاطعون بأن مصدر الكائنات والأصل الذي وجدت منه غير معروف في ذاته، وإنما يجب أن يكون موجودًا ذا قوة، فالمادي منهم يقول: المادة مع القوة هي أصل الموجودات كلها، فإذا سألته: ما هي المادة التي تعنيها؟ يقول: إن حقيقتها غير معروفة.
فكأنه اختلف مع غيره في التسمية، واتفق الجميع على أن هذه الكائنات كلها قد صدرت عن موجود ذي قوة حقيقية غير معروفة الكنه -وهو ما عليه المسلمون- ولذلك قلنا في المنار: إن الفلاسفة الأوربيين الذين أنكروا إلههم ما أنكروا إلا إله الكنيسة؛ أي الإله الذي تصفه الكنيسة بصفات غير معقولة ككونه مركبًا من ثلاثة أقانيم، وكون أحدها حل في أحشاء امرأة فأولدها إلهًا كاملًا، وإنسانًا كاملًا إلى غير ذلك من الصفات التي لا يقبلها عقل.
هذا الاعتقاد هو الذي صرح به سل رود الذي قالوا أنه كان غير مؤمن بالله، وهو الذي كان يعتقده هكسلي وسبنسر وغيرهم من الفلاسفة الذين نقل عنهم التعطيل، ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: 4] [سقطت لفظة «وهو» عند إيراد الآية في المنار][1].