أما بعد:
إن الله - تعالى - هو الذي خلق السماء والأرض, وهو الذي أوجد اليابس والماء, وهو الذي يكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل، وهو الذي يأتي بالصيف الحار وبالشتاء البارد، لا إله إلا هو العزيز الحكيم . ولنا مع قدوم قليل من البرد هذه الأيام بعض تأملات وذكر بعض الأحكام:
عَن أَبِي هُرَيرَةَ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (اشتَكَت النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَت: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعضِي بَعضاً فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَينِ : نَفَسٍ, فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ, فِي الصَّيفِ . فَهُوَ أَشَدٌّ مَا تَجِدُونَ مِن الحَرِّ، وَأَشَدٌّ مَا تَجِدُونَ مِن الزَّمهَرِيرِ) رواه البخاري. قال ابن عبد البر - رحمه الله - هذه الشكوى بلسان المقال. وقال القاضي عياض - رحمه الله -: إنه الأظهر . وقال القرطبي - رحمه الله -: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى . وقال النووي - رحمه الله - نحو ذلك ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب. وتنفسها على الحقيقة.
والمراد بالزمهرير شدة البرد، ولا إشكال من وجوده في النار ففيها طبقة زمهريرية نسأل الله العافية.
فهذه النار عندما اشتكت إلى خالقها، والشكوى كانت من أنه قد أكل بعضها بعضاً، فكيف بالذي في داخلها؟ وكيف بمن يعذب فيها؟ وكيف بمن حكم الله عليه بالخلود فيها؟ فشفقةً من الله بهذه النار التي خلقها لإحراق الكفار والمنافقين والعصاة ومن يستحق دخولها، أذن لها بنفسين، نفس في كل موسم فأشد ما نجد أيها الأحبة من الحر ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما نجد من البرد أيضاً ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اشتكت النار إلى ربها وقالت: أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين: نفسا في الشتاء، ونفسا في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسَمُوم).
لبس الشتاء من الجليـد جلودا *** فالبس فقد بَرَد الزمان بُرودا
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا *** فغدا لسكان الجحيـم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتهـا *** تختـار حر النار والسّـفّودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا *** عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهمـا *** حـرك لنا عوداً وحرّق عودا
وهذا سؤال وجه لفضيلة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - : هناك من ينسب شدة البرد أو الحر للعوامل المناخية أو لطبقة الأوزون, أو لدوران الكرة الأرضية فهل يصح هذا التأويل؟ فكان الجواب: لاشك أن شدة الحر وشدة البرد لها أسباب طبيعية معلومة، ووجودها بأسبابها من تمام حكمة الله - عز وجل -، وبيان أنه - سبحانه وتعالى - خلق الخلق على أكمل نظام، وهناك أسباب مجهولة لا نعلمها نحن