بدأ الليل ينشر حلكته، ويفرد أجنحته محتضنا المدينة. ليلة وجع جديدة تبدأ، صمت يتمطط،
وخوف متجذر في الذات ينتشر.
يحتضنه الشارع، يسير متعثر الخطى، شارد الفكر، يفكر في أشياء حدثت، وأخرى محتملة
الوقوع، الأيام طوت الكثير من أحلامه، وأزمنة الارتداد والنكوص تضمه بحرارة الاشتياق.
يتوقف فجأة على صوت قطة تقفز من حاوية الأزبال، لونها الأسود يثير الاشمئزاز في
نفسه، يستعيد بالله من الشيطان الرجيم، ومن كل هامة ولامة،تمضي القطة لحال سبيلها،
يواصل سيره، "لعلها هي الأخرى اشمأزت منه وأفزعها منظره، وقد تكون لعنت
الشيطان"
السعال اللعين يفاجئه دون سابق إنذار،الكحة الجافة تخنق أنفاسه، يسرع في إخراج بخاخ
الربو، رشة أولى، ثم ثانية،تخف حدّة السعال، ويوصل المسير، الليل يضمه ويضم
أحلامه، والبؤس المتناسل القاتل يحتفي به ،ويفرش له شوكا ومسامير حادة، لم يعد هذا
الأمر يزعجه فقد دجنته الأيام، وأصبح الألم علامة تسم مسار حياته، والضياع جزءاً من
كينونته.
أحس برغبة في إفراغ متانته، التفت يمينا ثم يساراً،واندفع نحو سور إحدى المدارس
العمومية، تسربت إلى خياشمه رائحة نتنة، تنبئ بأن الكثيرين قد سبقوه إلى المكان،
لإزالة الضرورة الطبيعية، هذا الأمر يجعله الآن يبول دون أن يؤنبه ضميره.، انتابته
نشوة وراحة وهو يزيل ماء متانته،ويعيد أزار سرواله إلى عراها، وينطلق غير عابئ
بما يجري أو يدور حوله.
قطع شارع مصطفى المعاني في اتجاه زنقة الوحدة، ثم انعطف إلى زقاق أبو بكر
الصديق، وعلى بعد أمتار معدودة لاحت له حانة أنطوان بغطاء واجهتها الأبيض، نظر
إلى اللافتة التي تبث عليها اسم ثاني الخلفاء الراشدين، وتسأل: "كيف يسمح مستشارو
الجماعة بهذا اللقاء الجائر بين حانة خمر واسم صحابي جليل؟؟"
اتجه نحو الحانة،اقتحم البوابة داخلا، تهادت إلى أسماعه أنغام لحن شعبي راقص،
وحاصره دخان السجائر المنبعث من كل مكان، تقدم بخطى وئيدة نحو الحاجز الخشبي
الذي تقف خلفه ساقية ثخينة، تلبس ثوبا يكشف عن نحرها، وفتحة نهديها البارزين، اعتلى
إحدى الطابوريات المقابلة للحاجز،ابتسمت الساقية في وجهه، اِلتهم جسمها بنظراته،
سألته:
ماذا تحب أن تشرب؟
رد بصوت خافت:
ثلاث بيرات
قدمت له طلبه بغنج، شرب الزجاجة الأولى، ثم أشار لبائع فُستقٍ كان يعرض سلعته على
رواد الحانة، اشترى منه درهمين فستقا لزوم "القَطْعَةِ"، ثم شرب الزجاجتين التاليتين،
أحس بنشوة افتقدها منذ زمن بعيد، تسري في جسده، ومال برأسه نحو الساقية يطلب سِتّا،
وهو مبتسم ،طلبت منه الدفع مسبقا، اخرج ورقة بنكوت من فئة المائتي درهم، قدمها
لها،استخلصت الثمن، وأسرعت تقدم له ما طلب.
أخرج هاتفه النقال، نظر إلى شاشته مليا ،وفي غفلة من الساقية التقط لها صورا من زوايا
مختلفة، هي مثيرة رغم سمنتها، نهداها مثيران، وعجيزتها المكتنزة، توقظ لهيب الشبق،
في أكثر الرجال برودة، أحس بتوتر غريب يعتري جزأه الأسفل، الوحش اللئيم يصرخ
داخله. والساقية الثخينة تحرك النائم والساكن بجسده،مضى عهد طويل، دون أن يكتنفه
هذا الإحساس، ربما منذ هجرته زوجته ،يتذكر أنه لعنها جهرا وسراً، ودخل في عزلة
وصمت اختياريين. لكنه الليلة يكتشف أن الحياة تستمر، ورغبات الجسد تظل في حالة
تأهب، في انتظار المثير، الذي يدفع بها إلى التجلي والخروج من العتمة إلى بؤرة
الضوء، أشار للساقية من جديد،طلب قدح نبيد أحمر، ثم قال منشدا:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مستها سراء
قدمت له الساقية قدح النبيذ، وهتفت بصوت ساخر:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
ذكرتني بأبي نواس وردّه على إبراهيم النظام ،كبير المتكلمين المعتزلة، وأستاذ الجاحظ
حدق فيها مليا، فاغرا فاهُ، ثم قال:
لا فض فوك، أيتها الساقية المثقفة، من أين لك كل هذا؟
ردت الساقية وهي ترسم على وجهها ابتسامة عريضة:
أنا خريجة كلية الآداب، وظروفي قادتني إلى حانة أنطوان، لأعيش قدري في انتظار
انفراج شبه مستحيل
تركته لعالمه وانصرفت لخدمة زبائن أخرين،فكر: "دنيا عابثة،طقوسها ملبدة بالجفاء،
وغدرها راسخ ثابت، لا أحد يسلم من شواظ جنونها".