بناء مدرسة العطارين
تقع مدرسة العطارين في مدينة فاس القديمة بجوار جامع القرويين، وقد قام بتشييدها السلطان أبو سعيد بن يعقوب بن عبد الحق (675 - 731هـ / 1276 - 1331م) من ملوك الدولة المرينية، بدأ بناؤها في شعبان سنة 723هـ / 1323م، وفرغ من تشييدها سنة 725هـ /1325م. ونظرًا لفخامة وجمال بنيانها فقد عرفت باسم "المدرسة العظمى".
قال ابن أبي زرع: "وفي مهل شعبان من سنة 723هـ أمر أمير المسلمين أبو سعيد عثمان أيده الله ونصره ببناء المدرسة العظمى بإزاء جامع القرويين شرفه الله تعالى بذكره، فبنيت على يد الشيخ المبارك عبد الله بن قاسم المزوار، ووقف أمير المسلمين على تأسيسها ومعه الفقهاء والصلحاء حتى أسست وشرع في بنائها، نفعه الله بذلك وأجزل ثوابه عليه".
وقد قال عنها أحد المؤرخين المغاربة إن عمارتها آية الدهر، ولم يبن مثلها ملك من قبل، قال الناصري: "وَفِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَسَبْعمائة فِي فاتح شعْبَان مِنْهَا أَمر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِبِنَاء الْمدرسَة الْعُظْمَى بِإِزَاءِ جَامع الْقرَوِيين بفاس، وَهِي الْمَعْرُوفَة الْيَوْم بمدرسة العطارين، فنيت على يَد الشَّيْخ أبي مُحَمَّد عبد الله بن قَاسم المزوار، وَحضر السُّلْطَان أَبُو سعيد بِنَفسِهِ فِي جمَاعَة من الْفُقَهَاء وَأهل الْخَيْر حَتَّى أسست وَشرع فِي بنائها بمحضره، فَجَاءَت هَذِه الْمدرسَة من أعجب مصانع الدول، بِحَيْثُ لم يبن ملك قبله مثلهَا، وأجرى بهَا مَاء معينا من بعض الْعُيُون هُنَالك، وشحنها بالطلبة ورتب فِيهَا إِمَامًا ومؤذنين وقومة يقومُونَ بأمرها، ورتب فِيهَا الْفُقَهَاء لتدريس الْعلم، وأجرى على الْكل المرتبات والمؤن فَوق الْكِفَايَة، وَاشْترى عدَّة أَمْلَاك ووقفها عَلَيْهَا احتسابا بِاللَّه تَعَالَى".
وقد اجتهد عريف البناء ومهندس التصميم عبد الله بن قاسم المزوار في تأمين المياه اللازمة لمدرسة العطارين، فمد إليها الماء من عين غزيرة خاصة بها حتى لا تنقطع عنها المياه. كما ورتب الأمير المريني الفقهاء لتدريس العلم، وأسكن الطلاب بالمدرسة، وعيّـن فيها عدداً من أصحاب الوظائف من مؤذنين وإمام وخدم، وكانت الدراسة تتوقف يوم الجمعة من كل أسبوع ليذهب الطلاب والمدرسون لإقامة الصلاة في جامع القرويين.
وقفية مدرسة العطارين
وقد وُجد نص وقفية مدرسة العطارين على لوح حجري، نُقش عليه، كالتالي: "(...) فهذا ما حبس وأمر بتخطيطه وإنشائه (...) مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين (...) أبو سعيد، ابن سيدنا (...) أبي يوسف يعقوب ابن عبد الحق، جعلهم الله من أئمة المتقين برسم المدرسة التي أتم بناءها في عام خمسة وعشرين وسبعمائة (725هـ) وهي المقابلة لسماط العطارين من فاس القرويين".
تصميم مدرسة العطارين
يمتاز التخطيط المعماري لمدرسة العطارين بالبساطة، ومحوره صحن مكشوف، يتقدمه من الجهة الجنوبية إيوان القبلة، ويكتنفه من الجانبين بائكتان تحملان الخلاوي الخاصة بإقامة الطلاب. وللمدرسة كتلة دخول واحدة في الجهة الشمالية، بينما تقع الميضأة في الركن الشمالي الشرقي للمدرسة.
وتحتل كتلة الدخول وسط الواجهة الشمالية، حيث يوجد الباب في دخلة عميقة تزدان من أعلى بتكسيات من بلاطات خزفية ''الزليج''، بها كتابات كوفية تحتوي على آيات من القرآن الكريم، وقد زخرفت هذه البلاطات برسوم لأوراق نباتية بألوان الأزرق والأخضر والبني.
ويوجد بالمدخل نقوش كتابية محفورة في ألواح من المرمر، ويفضي باب الدخول إلى ردهة مستطيلة الشكل تحتوي على ثلاثة مداخل، الشرقي منها يؤدي إلى الميضأة، والغربي يوصل عبر سلم صاعد إلى حجرات الطلاب، أما المدخل الواقع بصدر الردهة فهو يؤدي إلى صحن المدرسة المستطيل الأبعاد الذي يمتد ضلعه الطولي من الشمال إلى الجنوب وتتوسطه فوارة ماء رخامية مربعة الشكل.
ويتقدم الصحن من الجهة الجنوبية إيوان القبلة، ومن الجانبين الشرقي والغربي تشرف عليه بوائك كتل الخلاوي، وجاءت أرضية الصحن أقل ارتفاعًا من أرضية إيوان القبلة وكتلة الخلاوي، وأرضية الصحن مفروشة ببلاطات الزليج الملون باللونين الأحمر والأخضر.
والملاحظ أن مهندس المدرسة ماثل بين واجهات كتل الخلاوي المشرفة على الصحن من الداخل من حيث الارتفاع وارتفاع واجهات الخلاوي، كما ربط بينهما برفرف خشبي مغطى من أعلاه بالقرميد، ويرتكز هذا الرفرف من أسفل على كوابيل خشبية.
أما إيوان القبلة فهو مستطيل، وقسم بواسطة بائكة من ثلاثة عقود محمولة على أربعة أعمدة إلى قسمين غير متساويين، أكبرهما القسم الذي يتوسط جداره الجنوبي المحراب. وأرضية إيوان القبلة مفروشة ببلاطات الزليج، ويغطي الإيوان من الداخل سقف خشبي مزخرف.
ويوجد بصدر الإيوان ست نوافذ مغشاة بحجاب من الجص المعشق بالزجاج الملون، واحتفظت أربع منها بزخارفها الأصلية، والتي يغلب عليها ألوان الأزرق والأصفر والأخضر.
ويشرف إيوان القبلة على صحن المدرسة بفتحة صغيرة، اتساعها 1,85 متر وارتفاعها 2,11 متر، حجبت بواسطة سياج من الخشب الخرط "المفرغ"، تتوسطه فتحة باب صغيرة تغلق عليها ضلفتا باب، أما باقي واجهة الإيوان فقد سدت بالكامل على غرار ما كان متبعًا في تصميم المدارس المغربية.
أما قاعة الصلاة فتنقسم إلى فضاءين غير متساويين بواسطة أقواس مدعمة بأعمدة ترتكز على سواري ضخمة. نجد على الجدار القبلي تنظيمًا ثلاثيًّا للواجهة، وتحيط بالكوة المركزية للمحراب كوتان كاذبتان تعلوهما عقود منكسرة متعددة الفصوص، وهي مفتوحة بواسطة عقد منكسر كامل ينتهي من الجهتين بعمودين بارزين من الرخام الأبيض، وفي الأعلى تشبيك هندسي ينطلق من نجمة مثمنة تجري على الواجهات الأربع لقاعة الصلاة، عززت أربعة أعمدة الركائز التي تحمل ثقل الجدار الشمالي الشرقي.
كما خصصت الطوابق لحجرات الطلبة، وهي مجموعة فضاءات مغلقة وغير متناسقة منتظمة في الجناح الجنوبي الشرقي، حول فناء مستطيل مقسم بواسطة مجموعتين من الركائز التي تدعم السقف المبلط بأروقة تنفتح تحتها فتحات الحجرات المتعددة الفصوص، التي تؤمن بهذه الطريقة الضوء والهواء.
وقد نظم مهندس المدرسة عبد الله بن قاسم فتحة باب إيوان القبلة المتصلة بالصحن داخل تقسيم معماري وزخرفي مؤلف من ثلاثة أقسام رأسية، الأوسط منها أكثر اتساعًا وارتفاعًا، وهو الذي يضم باب الدخول، وتوج من أعلى بعقد قوسي من الخشب.
ويوجد بأعلى فتحة الباب ثلاث نوافذ، حجبت فتحاتها بالزجاج الملون المعشق في الجص بأشكال زخرفية، ويكتنف فتحة الباب الوسطى من الجانبين دخلتان معقودتان غير نافذتين تعلوهما زخرفة شبكية نفذت في الجص.
وتقع كتلة الخلاوي على امتداد صحن المدرسة من الجهتين الشرقية والغربية، وشيدت حجرات خلاوي الطلاب في كل جانب على بائكة ثلاثية. وماثل المعماري بين واجهتي كتلة الخلاوي المشرفة على الصحن من الناحيتين المعمارية والزخرفية.
وتتكون كل واحدة من كتل الخلاوي السكنية من مستويين، الأرضي منهما عبارة عن بائكة ثلاثية مكونة من ثلاثة عقود قوسية ملبسة في الخشب وله حافة مسننة محمولة أرجلها على دعامتين مربعتين في المنتصف وعمودين صغيرين في الركنين.
ووضع المعماري فتحات النوافذ الثلاث في المستوى العلوي على سمت الجدار الخارجي مباشرة؛ ليوفر اتساعًا داخليًّا أكبر لحجرات الخلاوي ويفصل بين النوافذ الثلاث اربع دعامات وضعت على امتداد روافع المستوى الأول نفسه.
وكسيت جميع واجهات كتل الخلاوي من أسفل بالزليج ومن أعلى بالجص، ولبست العقود بالأخشاب المزخرفة بنقوش محفورة غاية في الدقة. ويوجد خارج المدرسة وبالتحديد في الجهة الشرقية للمدخل الرئيسي الميضأة، ويمكن الوصول إليها عن طريق الردهة التي تلي كتلة الدخول مباشرة.
ويتخذ تخطيط الميضأة المعماري شكل المستطيل، ويتوسطه حوض صغير تحف به من ثلاث جهات حجرات صغيرة "مطاهر"، وقد تم تجديد هذه الميضأة بكاملها في السنوات الأولى من القرن العشرين.
وتبقى مدرسة العطارين رغم بساطة تصميمها المعماري، بفضل فخامة زخارفها المنفذة بالزليج والجص والأخشاب، عنواناً على روعة الفن الإسلامي في بلاد المغرب.