في صحيح البخاري (كتاب الإيمان - باب إفشاء السلام من الإسلام) عن عمار بن ياسر قال : ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ .
-أعترف بأنني كثير التكرار لهذا الأثر الجميل ، لقد شدني التعبير المباشر عن مبدأ الإنصاف الذي جاءت به الشريعة ، وخاصة الإنصاف من النفس .
إن القدرة على الحياد بين المتخاصمين لهي شيء أشبه بالمستحيل ، إلا لمن اختارهم الله ورزقهم كمال العلم والتقوى والعقل .
أما الإنصاف من النفس فأمر وراء ذلك ، أنى يقع لإنسان أن يتجرد من ذاتيته وأنانيته وخصوصية نفسه ليجعل موقفه من نفسه ومن الآخر المختلف معه متساوياً ، وعلى ذات المسافة !
حين تتأمل تجد دعوة إلى الترقي والمجاهدة الأخلاقية للفرد يعز نظيرها .
وأفهم من الأثر معنى آخر ، وهو الإنصاف مع من ينتمي إليهم الإنسان ، من جماعة أو حزب أو قبيلة أو شعب أو مدرسة حركية أو فكرية ، أو مجموعة اقتصادية أو .. أو ..
حين تخطئ أنت تنظر إلى خطئك على أنه استثناء ، وأن لديك صواباً كثيراً ، وتنظر إلى قدْر من حسْن نيتك وسلامة مقصدك في الخطأ ، وتحيطه بما يهوّنه أو يخففه ، وتتبعه بالاستغفار والأعمال الصالحة الظاهرة والخفية بما ترجو معه زوال أثر الذنب أو المعصية أو أن تكون عاقبته خيراً .
أما حين يخطئ الآخرون ، فأنت تعرف الخطأ فقط ، لكن لا تكلف نفسك تصور ما وراءه من دوافع أو مقاصد أو نيات ، وما يصاحبه من أعمال صالحات ، ولا ما يتبعه من توبة واستغفار وندم وانكسار .
وحين يخطئ فرد في جماعتك أو حزبك أو قبيلتك أو مجموعتك الفكرية والحركية ؛ تعرف جيداً أن هذا خطأ فرد لا يتحمل مسؤوليته غيره ، وأن الآخرين عاتبوه وصححوه ، وأن حدوث خطأ من فرد ما معتاد ، وتسوق نصوصاً صحيحة صريحة من مثل قوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم:39،38) .
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : « أَلاَ لاَ يَجْنِى جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ .. » رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي وأحمد وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.
وتستميت في تقرير هذا المعنى ، وتعد من يتجافى عنه أو يصم أذنه عن سماع حجتك متحاملاً أو متعصباً أو مغرضاً ، وهو كذلك .
على أنك حين تظفر بخطأ فرد واحد من جماعة أخرى متباعدة عنك ولا تشعر نحوها بالدفء والانتماء يسهل عليك تعميم الخطأ ، واعتباره معبراً عن رأي الجميع ، وأنه رأس جبل الجليد ، أو نتيجة رضا وموافقة ، أو على الأقل هو بسبب تربية وتلقين تلقاها هذا المخطئ في محاضن جماعته أو حزبه أو قبيلته أو مدرسته الفكرية أو شركته التجارية ، فلا مناص لهم من تحمل التبعة كلها أو بعضها .
وستعدّ دفاع المدافعين وتنصل المتنصلين تهرباً من تحمل المسؤولية ، وذراً للرماد في العيون ، فأين الإنصاف إذاً ؟!
إنها مقامات من التجرد والمكاشفة مع الذات لا تحصل إلا بتوفيق من الله ، وطول مجاهدة ، واستعداد دائم لمراقبة النفس ، ومراقبة الأتباع والموافقين وعدم الانجرار وراء حالة الاصطفاف والتخندق التي تعمي عن الحق ، كما قيل :
ولذا أوصى الله تعالى المؤمنين بقوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)(النساء: من الآية135) ، فأمر بالشهادة على النفس والقريب .
وفي موضع آخر قال -سبحانه وتعالى- : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا)(المائدة: من الآية8) ، فأوصى سبحانه ألا يحملنا العداء والبغض -أياً كان سببه حتى لو كان دينياً- على أن نظلم أو نجور ، وهذه وصية القرآن للمؤمنين .
وفي الأثر : « يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ، وينسى الجذع ، أو الجذل ، في عينه » رواه البخاري فى الأدب المفرد وابن حبان والبيهقي في الشعب.
ومعناه : أن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفّر على تدقيق النظر في عيب أخيه , فيدركه مع خفائه , ولو كان كأقلّ ما يقع في العين من القذى , فيعمى به عن عيبٍ كبيرٍ ظاهرٍ لا خفاء به في نفسه, ولو كان كجذع النخلة!
-كم منا من سيقف أمام نفسه ويحاكمها ويحاسبها بدلاً من أن يمضي في سبيله مؤمناً بأنه هو الحق ومن عداه الباطل وهو الهدى ومن عداه الضلال ..