يُظهِر النوم وما يتعلق به ويصاحبه من تغيرات سلوكيات إرادية أو غير إرادية قدرة الخالق سبحانه وتعالى، قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) "الروم 23". وقد أعلن باحثون قاموا بدراسة فحوص بتقنية التصوير الرباعي الأبعاد أجريت على 15 جنيناً معافى في بطون أمهاتهم نشرت في دورية الشهر الماضي (نوفمبر 2012)، أنهم يعتقدون أن التثاؤب عملية مرتبطة بنمو الجنين، وهو ما قد يمنح الأطباء طريقة جديدة لتقييم صحة الأجنة. وقد أكد الباحثون أن فتح الفم عند الجنين هو للتثاؤب وليس مجرد فتح وضم للفم اثناء النمو حيث إن الدراسة التي قاموا بها استطاعت أن تميز بوضوح بين التثاؤب وفتح الفم اعتماداً على طول قطر فتحة الفم. ونظرا لكون التثاؤب من الظواهر التي تصاحب بالنوم والإجهاد وكونها لم تفهم بشكل كبير حتى الآن، اردت اليوم أن استعرض هذه العلامة واستعرض الأبحاث الحديثة المتعلقة بها.
التثاؤب آية أخرى من آيات الله، ومع أن الناس يربطونه بالنوم فقط إلا أن دلالاته أكبر، ولم يستطع العلم حتى الآن تفسير كل ما يتعلق بالتثاؤب. وإن كان الطب الحديث لم يظهر الاهتمام بالتثاؤب حتى مطلع الثمانينيات الميلادية، فإن للتثاؤب اهتمامًا خاصًا في ثقافة المسلم منذ القدم. فالتثاؤب عند المسلمين من الشيطان، كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:... (التثاؤب من الشيطان...) (رواه مسلم).
كما أن للتثاؤب عند المسلم آدابًا أرشد إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم (فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع) وجاء في الرواية الأخرى: (فليضع يده على فيه). ومما ذكره ابن حجر رحمه الله في الفتح قال: (ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط). إذًا يظهر أن التثاؤب أمر سيئ، ولكن هل هناك مضار صحية للتثاؤب؟ سأذكر لكم في هذا المقال بعض الحقائق عن التثاؤب والتي تدعو للتأمل في عظمة الخالق سبحانه.
والتثاؤب ليس مجرد فتح للفم فقط وإنما يصاحبه عند الإنسان أمور أخرى، حيث يبدأ التثاؤب بأخذ شهيق طويل (4-6 ثوانٍ) ثم يصل التثاؤب إلى قمته وأوجه حيث يبقى الفم مفتوحًا والهواء داخل الرئة (2-4 ثوانٍ) ويتبع ذلك زفير سريع. وأقصى مدة للتثاؤب تستمر 10 ثوانٍ. ويمكن أن يصاحب التثاؤب مطّ لعضلات الجسم (تمغط). وفي حال بدء عملية التثاؤب فإنه لا يمكن إيقافها، ولكن يمكن تعديلها وتخفيفها، ومن هنا جاء في الحديث (فإذا تثاءب أحدكم فليرّده ما استطاع) رواه البخاري وجاء في الرواية الأخرى: (فليضع يده على فيه) لأنه لا يستطيع منعه. ويتم التحكم في عملية التثاؤب على عدة مستويات في المخ بدءًا من قشرة المخ وحتى عنق المخ، وهو عملية معقدة جدًا وتشارك فيها الأعصاب الجمجمية والعصب الحجابي الذي يحرك عضلة الحجاب الحاجز والأعصاب التي تحرك عضلات التنفس الثانوية وعدد كبير من النواقل العصبية مثل الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وغيره الكثير.
ومن المعلوم أن التثاؤب لا يحدث في الإنسان فقط ولكن هذه العملية تظهر في كائنات حية أخرى فهو يحدث في الثدييات كما يحدث في الإنسان. كما لوحظ أن السمك والزواحف تقوم بعملية فغر الفم، وهو ما يشابه فتح الفم لدى الإنسان عند التثاؤب، ولكن يبدو أن فغر الفم عند السمك والزواحف لا يصاحبه المراحل التنفسية التي تحدث عند الإنسان. وقد تم رصد ظهور التثاؤب عند الأجنة من الأسبوع ال15 من الحمل، ويصبح التثاؤب أمرًا شائعًا في النصف الثاني من الحمل. ويزداد التثاؤب عند حديثي الولادة، ويحدث للمرة الأولى بعد عدة دقائق من الولادة ويستمر بكثرة في السنة الأولى ولكن لا يكون مصحوبًا في العادة بالتمغط. ويكون التثاؤب لدى الحيوانات أكثر عند الذكور مقارنة بالإناث ويزداد عند الذكور المسيطرة على المجموعة، أما في الإنسان فلا فرق بين الذكور والإناث. لذلك يعتقد العلماء أن التثاؤب أمر سلوكي لدى الحيوانات له أهمية في التواصل بينها. ويزداد التثاؤب قبل النوم وبعد الاستيقاظ، ولكن قبل النوم يغلب التثاؤب على التمغط، في حين يغلب التمغط على التثاؤب بعد الاستيقاظ. ويزداد التثاؤب في بعض الأوضاع كالقيام بالأعمال المملة أو التي لا تحتاج إلى جهد جسدي كحضور المحاضرات أو مشاهدة التلفزيون أو القراءة. وقد لوحظ كذلك أثناء قيادة السيارة. كما أنه يزداد عند الجوع أو قبل الأكل وكذلك عند التوتر أو زيادة الضغوط وعند الملل. ويعتقد البعض أن التثاؤب معدٍ وهذا أمر أثبته العلم الحديث؛ فقد أظهرت أكثر من دراسة هذا الأمر. فقد تبين أن التثاؤب قد يبدأ في حال رؤية شخص يتثاءب أو سماعه أو القراءة عن التثاؤب أو التفكير في التثاؤب. وفي دراسة حديثة قام بها باحثون إيطاليون ونشرت عام 2011 في دورية واجريت على 109 من الرجال والنساء من أعراق مختلفة، وجد الباحثون أن التثاؤب يكون معديا أكثر عندما يتثاءب شخص من العائلة قريب للشخص مقارنة بتثاؤب صديق ويكون أقل عدوى عندما يتثاءب شخص غريب. وهذه الظاهرة ليست مقصورة على الإنسان فقط فقد لوحظت كذلك في قرود البابون.
ولم يستطع الطب الحديث حتى الآن معرفة الهدف من التثاؤب. فهناك عدة نظريات منها النظرية التنفسية والتي تقول إن الهدف من التثاؤب هو رفع مستوى الأكسجين في الدم وإنقاص مستوى ثاني أكسيد الكربون، ولكن هذا النظرية لم تثبت صحتها، حيث أظهرت التجارب أن تنفس هواء ناقص الأكسجين وبه زيادة من ثاني أكسيد الكربون لا يزيد التثاؤب. أما النظرية الأخرى فتقول إن الهدف من التثاؤب هو زيادة مستوى الوعي والتركيز عند الخمول. وعلى الرغم من أن هذه النظرية تبدو منطقية إلا أن التجارب في المختبر وقياس النشاط الكهربي في المخ قبل وبعد التثاؤب أثبتا عدم صحتها. وحديثا، وجد الباحثون أن التثاؤب يزيد جريان الدم في المخ مما يسبب زيادة اليقظة.
بقي أن نعرف أن التثاؤب الزائد قد يكون علامة مرضية، فهناك أمراض كثيرة تزيد من التثاؤب مثل الأمراض العصبية التنكسية المزمنة مثل مرض الرعاش والجلطات الدماغية ومشكلات فص المخ الأمامي وزيادة ضغط المخ والصرع وغيرها من الأمراض العصبية. كما أن بعض الأدوية قد تزيد من التثاؤب مثل بعض مضادات الاكتئاب وهرمون الإستروجين. كما أن الحمى بحد ذاتها قد تزيد من التثاؤب وكذلك التهاب السحايا الحاد والفشل الكلوي وفشل الكبد ونقص الغدة الدرقية وتقرحات المعدة وغيرها.