02-25-2019, 06:03 PM
|
|
|
|
في ظلال الهجرة النبوية المباركة
في ظلالالهجرةالنبوية المباركة
الحمد لله على بديع لطفه وكريم عنايته، سبق الأشياء علمه ونفذت فيها مشيئته، وظهرت في الخلق آثارُ رحمته، وما من مخلوقٍ في السماء ولا في الأرض إلا وهو من تجليات قدرته.
سبحانه.. مدبرُ الأمور على مقتضي العلمِ القديم، وأهل الإيمان ينعمون بالرضا والتسليم، ولله في مجرى الأحداثِ عبرٌ تملأُ القلبَ سَلاماً والعقلَ هدايةً، وهُوَ العليمُ الحكِيمُ.
يا أخا الإسلام:
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ
وضاق لما به الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً
ولا أغنى بحيلته الأريبُ
وأوطأت المكارهِ واطمأّنَّتْ
وأرستْ في أماكنها الخُطُوبُ
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ
يمنُّ به اللطيف المستجيبُ
وكل الحادثاتِ وإِنْ تناهَتْ
فموْصُولٌ بها الفرجُ القريبُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له الملكُ الحقُّ المبين، الخيرُ المطلقُ في قدره وتدبيره، والعبد سائرٌ بلا اختيارٍ في حُكْمِهِ وتَقْديرِه.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله النبيُّ الخاتم، جامعُ لواء الشرائع في شِرْعَتِه، وهَادِي القلوبِ إلى ربِّهَا بِعَاطرِ سُنَّتِه، فصلاةً وسلاماً عليه وعلى آله وصحْبِهِ ومن اهتدى بطريقته واتبع ملته، وعلى خلفائه الراشدين وزوجاته الطاهراتِ أُمُّهَات المؤمنين ومن سلك دَرْبَهُ واتبع هداهُ إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي هذه الأيام الكريمةِ يَكْثُرُ الحديث كالمُعْتَادِ عن الهجرة المباركة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، على اعتبار أن الذكرى تظلِّلُ المسلمينَ في بِدايةِ كلِّ عامٍ هجريٍّ جديدٍ، وربما يترسخ في كثيرٍ من الأذهان أن هذا الحدث العظيم قد حدثَ في شهر الله المحرم! ذلك لما يتابعونه من التغطية التاريخية للخطباء في المساجد والإذاعات وقنوات التلفزة والمجلات والصحافة السيَّارة وغيرها من وسائل التواصل مع الناس، ونتيجةً لهذا كِلِّهِ - إضافةً إلى أن قطاعاتٍ غير قليلةٍ من المسلمين ليس من عادات أصحابها ثني الرُّكَبِ أمام العلماء الذين يصحِّحون ما انطبع في العقول التي سيطرتْ عليها الأوهام - فقد ربط الناس بين الذكرى وبين بداية العام!.
والصحيح أن الهجرة كانت في شهر ربيع الأول ولم تكن في المحرم، يذكر الإمام ابن القيم رحمه في زاد المعاد: [وَبَلَغَ الْأَنْصَارَ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عشر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر من نبوته خرجوا على عادتهم، فلما حميت الشَّمْسِ رَجَعُوا، وَصَعِدَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ لِبَعْضِ شَأْنِهِ، فَرَأَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قَيْلَةَ هَذَا صَاحِبُكُمْ قَدْ جَاءَ، هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار الأنصار إلى السلاح ليتلقوه، وسمعت الوجبة وَالتَّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِهِ، وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، فَتَلَقَّوْهُ وَحَيَّوْهُ بتحية النبوة، وأحدقوا بِهِ مُطِيفِينَ حَوْلَهُ، وَالسَّكِينَةُ تَغْشَاهُ، وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [التحريم: 4]] ( الإمام ابن قيم الجوزية / زاد المعاد في هدي خير العباد ص114 ج1 نسخة مدمجة على موقع روح الإسلام).
وبدأ الحدث في مقدم شهر ربيع الأول على ما ذكره البوطي أيضاً قال:[ وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكرٍ إلى غار ثوْرٍ ليقيما فيه وكان ذلك على الراجح في اليوم الثاني من ربيع الأول الموافق 20 أيلول سنة 622 م بعد أن أمضي ثلاثة عَشَرَ سنة من البعثة] (الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي / فقه السيرة النبوية ص 196 /ط10 / 1991م دار الفكر / بيروت- لبنان)، ولهذا كان التنبيه حتى لا يزيد الإلتباس التاريخي على المسلمين.
سَبَبُ الهِجْرَةِ:
ولا شك أن الفترة التي سبقت الهجرة الكبرى إلى المدينة وما تقدمها من هجرتين سابقتين إلى الحبشة كانت فترات اختبارٍ وإِيذاءٍ واستضعاف لا يُطاق للمستضعفين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو جهلٍ يعذب سميَّةَ بنت خياط رضي الله عنها حتى استشهدت وفازت بلقب أول شهيدةٍ في الإسلام، ويَضربُ عبدَ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه حتى يشق أذنه، ويعذبُ الكفار عمَّارَ بن ياسر حتى لا يدري ما يقول، ويتنوع التعذيب على بلال بن رباح رضي الله عنه حتى يمُنَّ الله عليه بالعتق على يد الصدِّيقِ أبي بكر، ويُكْوَي خباب بن الأرتّ رضي الله عنه بالنار على ظهره حتى برص، ويقلعون عين زنيرة الرومية، وكم من بلاءاتٍ يبكي لها قلبُ الحَجَرِ قد أصابوا بها المسلمين من تعذيبٍ وتجويعٍ ومقاطعةٍ وإذلالٍ وتضييقٍ، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نال حظه من التكليف كما نال أصحابه الكرام، فهذه زوجة عَمِّهِ أبي لهب ينزل الله تعالى فيها قرآناً ينذرها بالعذاب، يذكر ابن هشام في السيرة:[ قال ابن إسحاق: فذُكِرَ لي أنَّ أُمَّ جميلٍ "حمالة الحطب" حين سمعت ما أنزل الله فيها وفي زوجها من القرآن أتتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكرٍ رضي الله عنه وفي يدها فهر"حجرٌ على مقدار ملء الكف" فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكرٍ فقالت: يا أبا بكر: أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ثم قالت: "مُذَمَّماً عصَيْنا وأَمرهُ أبَيْنَا ودينَه قَليْنَا" ثم انصرفتْ فقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟ فقال (ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني) (الحاكم في المستدرك 2/361 وقال صحيح الإسناد والبيهقي في الدلائل 2/195)..... وكانت قريش إنما تسمي رسول الله مذمماً ثم يسبونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا تعجبون لما يصرف الله عني من أذى قريشٍ، يسبون ويهجون مُذمماً وأنا محمد) (صحيح البخاري 3533 "باب المناقب" عن أبي هريرة رضي الله عنه )](ابن هشام المعافري / السيرة النبوية صـ247، 248ج1 ط1/ 2006م دار الحديث - القاهرة)، وكان أمية بن خلفٍ إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزهُ ولمزهُ فأنزل الله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة:1]، وحتى الأغنياء من كبار الصحابة بادئ الأمر قد لقَوا التضييقَ والحصارَ بلْ حتى والضرب كما جاء في بعض الروايات عن أبي بكرٍ وسعيد بن زيد وأبي ذَرٍّ وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والحاصلُ أنها كانت فترةً عصيبةً كريحٍ جَامِحَةٍ على المسلمين الأُول في مكة.
بَيْدَ أن ذلك كُلَّهُ لم يكن هو السبب الأصيل في الهجرة وإن كان من مقدماتها، بل إن أثَرَ ذلك كان هو السبب، فقد تأثرت الدعوة كثيراً وطال المقام برسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاثة عشر عاماً وهو لم يحققْ مكاسب دعوية تمكنه والمسلمون معه من الجهر بدينهم على المستوى المنشود، ولم يمنحهم المقام في مَكَّةَ تأسيس دولة ولا مُكْنَةً لبلاغٍ خارج الجزيرة وهذه مهمته الرئيسية صلى الله عليه وسلم، ولم يكن سبب الهجرة أبداً هو الفرار من الإبتلاءات المتتابعة على النبي والمسلمين فهذه ضرورةٌ لأصحاب المواقف فكيف بأصحاب الرسالات؟ إن رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يفرّ من أرض مكة لشدة العذاب لأصحابه الكرام فقد كانوا رجالاً، وقد مدحهم القرآن الكريم مراراً وسجل لهم الرضا من الله عنهم قال تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة:100]، وهذا الرضا كان ثمرة الصبر والفداء فكيف يتركون الميدان؟! أما إنهم لو عَلِمُوا أن البلاء سيتضَاعَفُ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحقُقُ بهم ما يرنو إليه في دعوته لصبروا.
إن السبب الحفيَّ بالقبول والذي يجب أن نفهمه من حادث الهجرة يتمثل في إرادة تعبيد الناس لربهم وطلب التمكين لهذا الدين لأنه ما قام أحدٌ بأمرٍ وهو مستضعفٌ مدفوعٌ بالأبواب لا يملك لنفسه دفعَ ضُرٍّ أو اجتلاب خير.. فكانت هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم للتمكين لهذا الدين وتأسيس مجد الدنيا باسم الإسلام وإبلاغه للناس وبناء قوةٍ تحميه وتطبيق شرائعه في ميادين الحياة التعبدية والتعاملية، وكل ذلك لا يمكن أن يحدث في مكة التي ضنَّتْ على الإسلام وأهله بادئ الأمر بقبول بيناتِ الهداية.. لهذا كانت الهجرة فتحاً ونصراً وتمكيناً للإسلام وليس هروباً من أذى القُرشيين للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
♦ ♦ ♦ ♦
وَقَفَـــاتٌ وَعِــــبَرٌ
ولا بد أن يستلهمَ المؤمِنُ من هذهِ الذِّكرى عبيرَ العِبَرِ ويقف على دروسٍ مُسْتفَادَةٍ من هذا الحَدَثِ الجَلَلِ الذي يُسَطِّرُ كُنُوزاً من المعاني الرائعةِ الهَادِيةِ له في رحْلِتِهِ إلى مولاهُ في هذه الحياة ومنها:
قداسة الدين والعقيدة:
فإن أغلى الأغالي على المؤمن هو دينه، لأنه مبعث وجوده في هذه الدنيا، ومهما طال المقام في الدنيا فنحن أضيافٌ في مُدَدٍ قِصَارٍ داخل أوطاننا التي قدَّرَهَا الله تعالى لنا، يُرْوَى عن روح الله عيسى عليه السلام قوله:" اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف، فما لكم في العالم من منزل.. إن أنتمْ إلا عابري سبيل"، ولا قيمة للأرضِ أو المال أو الجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين في خطر التضييق أو الزوال.. ولذا؛ شُرِعَ الجهاد في الإسلام.
ماذا يربح الإنسان بمغانم الدنيا عندما يخسر دينه؟! إنه لا يجني إلا العدم.. ولهذا كانت تضحيات الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين بكل متاع هذه الفانية هي زادٌ على طريق الإيمان الصادق لكلِّ من زَلَّتْ قَدَمُهُ، إنه ذات المعنى العظيم الذي تغنى به خبيب بن عديٍّ رضي الله عنه وما يفصله عن الموتِ لحظاتٌ وذلك حين قال:
ولستُ أُبَالي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ♦♦♦ عَلى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِي
لقد كانت قدوتُه في ذلك هو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رغم أنه يودِّعُ مكة ببيان الحب لكن العقيدة أغلى وأبقى، فها هو يقول لها حين وداعه: (والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت) (ابن عبد البر في التمهيد 2/ 288 عن أبي هريرة رضي الله عنه بسندٍ صحيحٍ).
وكذلك ترك أصحابه في مكة كلِّ شئ فداءً لدينهم، وهذه صورةٌ رائدةٌ من فداءِ الإيمان بالنفس والمال والراحة جَسَّدَهَا هذا القادمُ من قَلْبِ النَّعِيمِ الدُّنيَويّ "سَلْمَانُ الفَارِسِيّ" رضي الله عنه عنه والذي هاجر بحثاً عن دينه ونورِ قَلْبِهِ بين بلادٍ تعددتْ لم يتخذ منها وطناً لأن الإيمان كان له وطن.
فهُجْرَانُ الأوطان من الدنيا لإعلاء قيمة الدين شرفٌ عظيمٌ.. وأكرم بها من غايةٍ للصادقين، وهي غايةٌ تكسب صاحبها بأساً وقوةً في مضارعة الأهوال الناجمة عن تمسكه بهذه العقيدة وهو في ذاته لا يجد قوته إلا من خلال دينه وعقيدته:
إن العقيدةَ في قلوبِ رجالِهَا ♦♦♦ مِنْ ذَرَّةٍ أَقْوَى وأَلْفِ مُهَنَّدِ
♦ ♦ ♦ ♦
اليقين:
وهو أعظم دروس الهجرة على الإطلاق، إذ لما كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الغار هو وصاحبه ليس معهما إلا الله عز وجل بينما يحاول أهل الطلب من المشركين العثور عليهما بكل وسيلةٍ وقد كانوا على مقربةٍ تمكنهمْ من الوُصَولِ إِلى أَهْدافِهِمْ، ويخاف الصِّدِّيقُ على النبي صلى الله عليه وسلم في ارتجاف قلبٍ تعبر عنه الآية الكريمة: ﴿ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: من الآية40]، فالصورة القرآنية هنا تبينُ التَّخَوَّفَ الشَّديدَ من الصِّدِّيقِ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يهدئُ من روعه بيقينه في ربه وقد كفاه الله عز وجل، فقد أنزل الله تعالى سكينةً في قلبه صلى الله عليه وسلم وأيده بجنودٍ من عنده لا تراها العيون، وكانت المعيَّةُ كما يذكر البيضَاوِي: [ بالعصمة والمعونة، رُوِيَ أن المشركين طلعوا فوق الغار فَأَشْفَقَ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه، وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ﴾ [التوبة: 40] أَمَنَتَهُ التي تسكن عندها القلوبعليه، على النبي صلى الله عليه وسلم أو على صاحبه وهو الأظهر لأنَّهُ كان مُنْزَعِجاًوأيده بجنود لم تروهايعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ] (تفسير الإمام البيضاوي / أنوار التنزيل وأسرار التأويل / نسخة مُدْمجة على مكتبة المعارف الإسلامية الإلكترونية).
وما أحوج المؤمنين دائماً إلى استلهام درس اليقين من هذه المناسبة الغراء، لأن اليقين في قلب المؤمنين هو المدد الذي يدفعهم إلى مزيد المكارم ويمنعهم من الإنجراف في السخائم والمحارم، وهو مع ذلك يزود المؤمن بطاقةٍ من الصبر والطاعة لأمر الله تعالى مهما تكن الأحوال، وقد كان وسيلة الخليل إبراهيم في الصبر على الطرح في النار وتعلقه بالله ذي المنن لما ألقاه المشركون فيها، (أخرج ابن جريرٍ عن السدي قال: ﴿ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات 97] قال: فحبسوه في بيت، وجمعوا له حطباً حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: لئن عافاني الله لأجمعن حطباً لإِبراهيم، فلما جمعوا له، وأكثروا من الحطب حتى إن كانت الطير لتمر بها، فتحترق من شدة وهجها، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان، فرفع إبراهيم عليه السلام رأسه إلى السماء فقالت السماء، والأرض، والجبال، والملائكة، إبراهيم يحرق فيك. فقال: أنا أعلم به، وإن دعاكم فأغيثوه، وقال إبراهيم عليه السلام حين رفع رأسه إلى السماء: اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض ولدٌ يعبدك غيري، حسبي الله ونعم الوكيل فناداها ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]) (الإمام جلال الدين السيوطي / الدر المنثور في التأويل بالمأثور / نسخة مدمجة على موقع روح الإسلام).
وهو ذات اليقين الذي كان يملأ جوانح أم موسى لما أوحى الله تعالى إليها: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص 7]، وهو الذي دفع نبي الله زكريا عليه السلام بطلب الذرية من الله وقد فاتت أسبابها، قال الله تعالى: ﴿ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ [مريم 2 -7]، فاليقين هو مداد الإيمان المخلوط بدماء المؤمنين ويجب أن يكونوا كذلك ففي أمر الدعاء أمرنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أن ندعوا الله تعالى ونحن موقنين بتحقيق الرجاء، قال: (القلوب أوعية وبعضها من بعض فإذا سألتم الله عز وجل أيها الناس فسلوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلبٍ غافلٍ) (الهيثمي في مجمع الزوائد 10 /151 عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وإسناده حسن)، فما أعظم اليقين في الله رب العالمين.
♦ ♦ ♦ ♦
رسالة الأوزاع من موقف الفاروق رضي الله عنه في الهجرة:
أخرج ابن عساكر في تاريخه وابن الأثير في أسد الغابة عن علي رضي الله عنه أنه قال: [ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لم هم بالهجرة تقلد سيفه و تنكب قوسه وانتضى في يده أسهماً واختصر عَنزته، ومضى قبل الكعبة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً، ثم أتى المقام فصلى متمكناً، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة وقال لهم: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس - الأنوف -، من أراد أن تثكله أمه و يوتم ولده و يرمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي، قال علي: فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين، علمهم وأرشدهم ومضى لوجهه] (ابن عساكر في تاريخه 44 /51 - 52 وابن الأثير في أسد الغابة "/152)، ومن هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجب أن يتعلم الرؤوس والأوزاع من الناس همة التحري لقول الحق وقبوله والعمل به وجعله من أهم صور التميز لهذه الطائفة المسئولة بين الخلق، واقصد بهم رؤؤس العائلات والبطون وأولي الحل والعقد من أي مجتمعٍ عليهم التدبر في موقف الفاروق عمر رضي الله عنه لتعلم قول كلمة الحق لوجه الله تعالى وعدم كتمانها لأثرهم في الناس ولأن الحق يعلو ولا يعلى عليه مهما طال زمان الباطل، ولأنهم يملكونها بمكانتهم ولهذه الكلمة تأثيراً عجيباً في قبولها، فإن الناس قد درجوا بفطرتهم على الإصغاء لأصحاب النفوذ.
♦ ♦ ♦ ♦
الأخذ بالأسباب:
وقد أعد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم العدة للهجرة قبلها بوقتٍ كافٍ للإعداد من تجهيز الراحلتين والسير صوب الغار للمبيت فيه ثلاثاُ وطريقه معاكسٌ لطريق المدينة ومعرفة أخبار المشركين واستئجار رجل ماهرٍ بهداية الطريق في الصحراء إلى المدينة مع أنه كان كافراً وترك عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه لينام مكان النبي صلى الله عليه وسلم ليعمي على المشركين وتعفية آثار الأقدام بغنم عامر بن فهيرة رضي الله عنه والخروج ليلاً، وكل هذا من صور الأخذ بالأسباب حتى ينجح العمل وتكتب له النهاية المقبولة، وعلى هذا نقول: إن طالب علم لا يحضر أمام أستاذه ولا يستذكر درسه كيف يكون في نهاية العام من الناجحين؟، وإن طالب رزقٍ ينام عن الذهاب إلى أماكن عمله ويخلد إلى البقاء الدائم في بيته.. كيف يتحصل على قوت يومه مهما جأر بالدعاء؟ والدعاء لا ينقذ الغرقى، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ثم يقول: اللهم ارزقني فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة"، وإن طالب العدل بعد ظلمه لا بد وأن يذهب إلى القاضي وإن طالب الشفاء بعد سؤال الله لا بد وأن يذهب للطبيب أو يأتيه الطبيب، فالأخذ بالأسباب أول طرق التوفيق.
♦ ♦ ♦ ♦
تقاسم الأدوار عند المهمات الجليلة:
وحتى ينجح العمل الكبير فلا بد له من أشخاصٍ مُختارين كي يكون كلٌ منهم في مكانه وعلى حسب طاقته وقدراته، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير أمر الهجرة على ما أيده الله به من وحيٍّ سديدٍ وهذا أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه ينفق ويستأجر ويصحب في الدار والغار، وهذا علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ينام مكان النبي صلى الله عليه وسلم للتعمية على عيون المتربصين من الأعداء وليرد الودائع، وهذه أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنها تذهب بالطعام إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأبيها في الغار، وهذا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه يمدهما بالأخبار من مكة وما حولها، وهذا عامر بن فهيرة يعفي على آثار أقدام النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ودليلهما عبد الله بن أريقط، فلكل واحدٍ مسئولية ودورٌ سيظهر أثر هذا الدور إن لم يكن صاحبه موجوداً، وهذا من الدروس الهامة في القيام بأي عملٍ نافعٍ، فرغيف الخبز الذي نأكله مرَّ بأدوارٍ كثيرةٍ من الزارع إلى الحاصد وتخليص الحَبِّ من العصف وتخزينه وتنقيته وطحنه وعجنه وخبزه وهو مجرد رغيف يؤكل في دقائق فما بالنا بالهجرة التي احتشد لها من خيرة الأصحاب من يجلوا عن أوصاف كل البشر؟
فإلى شباب الإسلام ونسائه وصبيانه وكهوله.. عليكم دورٌ هامٌ في منظومة الإرتقاء بمجتمعاتكم وبتقديم أي جهدٍ لله ورسوله كهؤلاء الأعلام من خير الأزمان.
إن من أعظم أخطاء المسلمين هذه الأيام هو أنك ترى الواحد منهم يقدم أيَّ عملٍ لنصرة دينه أو مجتمعه كأنه يعمل في صحراء لا أحد معه، كأنه لا يحمل إلا همَّ نفسه أن يبرز في عيون الناس وليس عليه من مهمة النجاح أي مسئولية، والحال يصرح أن تراصُّوا واجتمعوا وتفهموا على أدواركم قبل أن تبدأوا أي عمل فإن الهوى فاقرة واستلهام الدرس من الهجرة في تقاسم الأدوار فرضٌ على كل من يتحرك للإسلام ولو خطوة.
وفي الختام:
لا تنتهي العبر والدروس الكثيرة من حادث الهجرة وملابساته، ولكن يجب علينا الاستفادة الحقيقية من تلك الأحداث التي كونت تاريخ الإسلام في مهده الأول، لنقف على هذه الرسائل العجلى في الختام بلا ترتيب:
• أن أعظم هجرةٍ تجب على أهل هذا الزمان هي هجرة الذنب والسيئة في حق النفس أو الغير، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (... والمهاجرُ من هجر ما نهى اللهُ عنه) (صحيح البخاري 6484 عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما.
• تجديد النية وجهاد القلوب ضد الشهوات والشبهات والعطف بها إلى مراقي الطاعات والتلذذ بالعبادات من أهم مطالب هذه المرحلة التي نحياها وقد نُسخت الهجرة بعد فتح مكة كما جاء في الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قال: (لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا) ( سنن الترمذي 1686 وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ).
• وجوب مهاجرة الباطل وأهله إلى حينٍ حتى لا يفتنوا المؤمن في دينه، قال الله تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم 48]، مع وجوب مهاجرة الباطل من العادات والتي توافق الشيطان ويجملها الهوى في عادات المسلم وسلوكه، فقد ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى قوله: (حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا) (ابن كثير في مسند الفاروق 2/618 عن ثابت بن الحجاج).
• ولقد تمثل في الهجرة احتشاد كل الطاقات حتى آتت أكلها وأينعت ثمارها في مجال العقيدة والأخلاق وتأسيس المجتمع الأول على أسمى المبادئ والقيم لأول مرة في تاريخ البشرية.
والله تعالى نسأل أن يحفظ أمة الإسلام ويفيض عليها من كرمه وعطائه.
والحمد لله في المبدأ والمنتهى.
td /ghg hgi[vm hgkf,dm hglfhv;m hgi[vm hgkf,dm
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ شموع الحب على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 10:20 AM
|