01-14-2019, 01:56 PM
|
|
|
|
|
صاحبة السر!
لم يكن الهرب من بيته الذي عاش فيه منذ تفتحت عينيه على برودة النظرات، سوى من تحجر المآقي داخل العيون القادحة بالعقاب المستديم، وعذابات قاساها على أيدي أولياء أمره، للبحث عن حياة كريمة تنقذه من الضيم.
حمل اسماله وآخر كسرة خبز يسد صرير امعائه الخاوية بها، ناولته اياه امه التي ماعرف غيرها في الحياة وماتفتقت ذاكرته عن وجه يبتسم بحنو حين يراه، ذكرياته جلها مغموسة بنجيع دمعاته الصغيرة وتنهيدة تخرج من بين أضلعه المصابة بكسر لم يشف منه، فاعوج الضلع الأصغر وظلت رئتيه بالكاد تدخل الأوكسجين كي يعيش.
الشوارع المقفرة تأخذه بين برد الشتاء وصقيع الوجوه التي تلتقيه على الأرصفة القاسيه، وكلمات السباب المنفرة وهو يتلقاها من عمال الرصيف البحري ملأت رأسه بالقهر فانزوى يقضم كسرة الخبز وينتحب.
صاح به أحد الرجال غريبي الشكل
- أنت، أتحمل أمتعتي مقابل عشاء والقليل من النقود.
- أجل سيدي الكريم أفعل، أين تريد بها؟
- سنأخذ سيارة اجره، وسنستأجر بيتا لي لأني أنوي البقاء هنا اسبوعا فقط، يستحسن أن تستأجره باسمك لأني لاأحب مقابلة السماسرة، وسأكرمك على هذا.
- بكل سرور.
لم يكن صعبا بزمن الخراب تأجير بيت بمواصفات رديئة، وثمن باهض نسبيا، وليس صعبا أن يمرر السمسار مسألة عمر الفتى خاصة انه ادعى أن البيت لأبيه وله، وأنهما غريبان عن المنطقة، فشعر بارتياح يغمره وتنفس الصعداء.
أشعل المدفأة وصار يلملم الأغراض المتبعثرة من المستأجر السابق، ثم خرج لجلب طعام العشاء من مطعم الناصية للرجل الغريب وله، ولم ينس المرور على صاحب الحانة وشراء زجاجة ويسكي دون أن يسأله صاحب الحانة عن عمره ولم يهتم حتى برؤية وجهه، فقط ناوله القنينة وقبض الثمن.
تمطى الليل ينشر حلكته، والريح تصفر معلنة بدء ليلية شتائية استثنائيه، والهدوء يخيم على الشارع المقفر الذي خلت أغلب عواميده من نور فوانيسها وشحت بالضوء من انكسار أجنحتها العاكسة، فبدا وكأنه خلا من الساكنين على جانبيه ، والغريب يصفر بشفتيه لحنا جنائزيا لم يسمعه الفتى بحياته، فشعر بقشعريرة تعتري بدنه، لكنه مع ذلك كان مرتاحا أنه وجد بيتا يضمه بعد أن يئس ليوم كامل وهو يتنقل بين الأزقة والأرصفة المليئة بالصراخ والشتائم، حتى أخذته سنة النوم، وغفى بوضع القرفصاء مثل قط صغير متكور قرب المدفأة.
صحى مذعورا ويد الغريب تنتزع عنه أسماله، فصاح مرتعبا:
- مابك سيدي !؟
- لاشيء تعال قربي لنتدفأ، مثلا!
- أشكرك سيدي أنا مرتاح هكذا.
لوى الغريب يده واقترب بفمه الغليظ منه، فسال اللعاب على رقبة الفتى مما جعله يصرخ ويحاول عبثا التملص من الغريب بأقصى مايستطيع، لكن يد الغريب أطبقت على خصر الفتى وشدته نحوه.
لم يستطع الفتى البكاء، ولا ليَ الذراعين التي أمسكت به والفرار من شرك لئيم نصبه الغريب، وأكرة الباب المغلق شنقت اختياره الهرب منها، وبفطرته المغموسة بأتراحه أحس بفداحة موقفه، جال بنظراته بخوف يائس مأسور في المكان فوقعت عينيه على السكين المستدق النصل على الطاولة المتأرجحة لشدة فوضى الحركة،استل السكين وانفلت متملصا يعارك ضعف جسده، ودقها بعنق الغريب فانزلقت بالوريد المنتفخ سريعا، وخرج راكضا والخوف يطارده، إلا أنه استدرك الوضع وعاد للداخل ينظر للغريب فوجده بلا حراك، وبقعة الدماء المحيطة برأسه الكبير تشير للنزف الحاد.
لم يكن صعبا عليه حفر حفرة عميقة تكفي جثة الغريب، وهو الذي عاش حياة أصعب الف مرة من عمره الغض، ومااهتم لثقل الجثة وهو يجرها بشق النفس نحو مدفنها، ورئته المتعبة تصدر الهسيس كاحتراق الحطب في النار، وأهال التراب عليها.
نقل شجرة النارنج اليانعة من مكانها القصي في الحديقة، زرعها فوق القبر، وبحنق بصق عليه
مسح العرق المنصب من جبهته بكمه الغارق بالدماء، والجدية تغلب على ملامح وجهه الصغير، وهمهم قائلا:
- حسنا، منذ اليوم هذا بيتي الجديد، وهذه حديقتي، ووحدها شجرة النارنج هذه ستعرف سري.
whpfm hgsv!
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 06:41 AM
|