من أهم مقومات قيام أي دولة وجود الأرض التي تقوم عليها تلك الدولة، ويعيش عليها مواطنوها بأمانٍ وكرامةٍ، فالدستورُ أصبح واضحَ المعالم، والأسس التي تقوم عليها هذه الدولة نزلَتْ في القرآن الكريم، والوحي ما زال يتنزَّل بأمر
الله تعالى على قلب رسوله صلى
الله عليه وسلم من أجل المزيد من التشريعات والأحكام وغيرها، والشعب المسلم صار لا يُستهانُ به، فالعدَدُ في ازدياد، وهم يوجدون في كل مكان تقريبًا، فلم يبقَ إلَّا الأرض لتجمعهم، لقد وقع الاختيار على المدينة (
يثرب) بموجب مجموعة من الأسباب، وبعد دراسة تحليلية دقيقة ومستفيضة لواقع الحال، نجد:
1- لم تكن (
يثرب) مركزًا دينيًّا يكون مصدرَ صراعٍ بين العرب، كما لم يكن هناك ما يسيل له لُعاب العرب فيها؛ كوجود الكعبة في مكة مثلًا، بل على العكس فإن وجود اليهود فيها يعني وجود المشاكل.
2- عدم وجود قيادة واضحة في المدينة، كما كان الحال في بقية مُدُن الجزيرة، فكما هو معروف الصراع التاريخي التقليدي بين الأوس والخزرج، والتوجُّس والريبة بين العرب واليهود فيها، باستثناء ما كان يُخطِّط له عبدالله بن أُبي بن سلول رأس المنافقين لتُولِّيه الأمر إلا أنه ذاب بسرعة لعدم جدية الأمر وأسباب أخرى مع أول دخول الإسلام للمدينة.
هذه الصراعات الطويلة والمتنوعة جعلت الأرض خصبةً لقبول توجُّه جديد، ممكن أن ينصف الجميع، ويكون حلًّا وسَطًا بينهم، وخاصة أنَّهم خرجوا قريبًا من حرب مؤلمة النتائج فيما بينهم، أكلت الأخضر واليابس، وهي حرب بُعاث
[1]؛ تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي
الله عنها: "كان يوم بُعاث يومًا قَدَّمهُ
الله تعالى لرسوله، فقدِم
رسول الله وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجُرِّحوا، فقدمه
الله لرسوله صلى
الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام"
[2].
3- موقع المدينة الإستراتيجي بين مكة والشام، وتحديدًا على طريق القوافل التجارية من وإلى الشام، وبين الشام واليمن، ولا يكاد طريق للتجارة ينطلق من مكة أو اليمن نحو الشام أو العراق إلَّا مرَّ بالمدينة أو قريبًا منها، فإن ذلك الموقع المهم سيُعطي قوة ضغط كبيرة تنفع المسلمين في بعض الإجراءات العسكرية أو إذا تطلب الأمر وحسب مقتضى الظروف ومستجداتها، وخاصة في قضية تجارة قريش، وهي القضية الاقتصادية التي تُمثِّل عصب الحياة بالنسبة لأهل مكة.