نستهل مقال اليوم عن مكارم الأخلاق بكلمات الصادق الأمين ذى الخُلق العظيم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
أما عن الأخلاق فقد ذكرت فى المقالات السابقة أنها المنظم الأساسى للعلاقات بين الناس، وهى أساس صلاح واستقامة المجتمع ورقيه وتقدمه، والذى إن شحت به القيم والأخلاقيات الحميدة سقط وانهار وتفشت به الجرائم وانعدمت فيه الرحمة واختفى العدل وقلت البركة والمودة بين الناس.
وكما ذكرت سابقاً أيضاً أن الأخلاق ومكارمها وفضائلها لا تقتصر على ما ورد فى الكتب السماوية الثلاثة، ولكنها نشأت مع بدايات نشأة الإنسان وظهور العلاقات الاجتماعية بين الناس، أى أنها وُلدت على أقدم وأعرق بقعة على وجه الأرض "مصر" فجر ضمير الإنسانية ومهد الحضارة وأرض الأنبياء ومنبع الأمن والأمان والأخلاق .
أما عن القيمة الأخلاقية التى يختصها مقال اليوم ضمن سلسلة مكارم الأخلاق هى "الصبر"
فقد قال المولى عز وجل ﴿إنى جزيتهم اليوم بما صبروا﴾
لم يقل الله:
بما صلوا
أو بما صاموا
أو بما تصدقوا
بل "بما صبروا"
الصبر فى المفهوم العام ببساطة هو الحبس والمنع، وهو حبس النفس عن الجزع، وأثبت العلم الحديث أن للصبر فوائد جمة.
الصَّبْرُ - صَبْرُ : التجلُّد وحسن الاحتمال .
الصَّبْرُ عن المحبوب : حَبْسُ النفس عنه.
الصَّبْرُ على المكروه: احتماله دون جزع.
شهر الصَّبر: شهر الصوم، لما فيه من حَبْس النفس عن الشهوات . المعجم الوسيط[1]
فالصبر بمجمل أنواعه ومجالاته: تعبير عن قوة إرادة الإنسان، وكمال عقله، وبُعده عن التسرع والطيش والرعونة، وتعامُله مع أمور الحياة ومشكلاتها بحكمة وتحمُّل ومسؤولية.
فما أحوجنا الآن إلى هذه الفضيلة العظيمة التى إن تحلى بها المرء فاز فوزاً عظيماً فى الدنيا والآخرة .
فلم يعد هناك للأسف فى تلك الآونة معنى للصبر و لا تعريف له فى قاموس لغويات الأجيال الحالية!
فعلى سبيل المثال: ما يمر به الوطن منذ الثورة على الفساد والاستبداد ثم الجماعة المحتلة الخائنة، وحتى الآن من تحديات وعثرات وحروب خفية وأخرى مُعلنة سياسياً واقتصادياً و دينياً وثقافياً، والذى كان يستلزم الصبر ثم الصبر دون نفاد لدى جميع المصريين لننجو به ونخرجه سالماً من بين فكى الشر ذوى الأنياب الزرقاء فى الداخل والخارج، ولكن الكثير منا بكل أسف لا يقو على الصبر الجميل بل ويختزل الأزمة برمتها فى مسألة غلاء الأسعار، والتى أعلم جيداً مدى صعوبتها ولكنها إن دققنا النظر جيداً سنجدها أخف وأيسر مئات المرات عن غيرها من الشدائد والتى كدنا نسقط بها مرات لولا عناية الله التى لا تغفل عن مصر بحفظها كلما اشتدت الأزمات.
فهل لنا أن ننظر من حولنا نظرة تأملية أكثر عمقاً من تلك التى لا تتخطى الأقدام، لنرى هذا الكم الهائل من النعم التى ننعم بها دون أن نسعد ونشكر الله كثيرا على هذا الَقدَر الذى منحه إيانا، إذ نجانا من الغم وأخرجنا من حلق الضيق إلى أوسع الطريق وأرسل لنا من يحمينا ويحنو علينا ويتصدى لعدونا بكل ما آتاه الله من قوة بقيادة جيش عظيم من خير أجناد الأرض، هذا غير البناء الذى لم يتوقف يوماً منذ ولاه الله علينا و حتى يومنا هذا ليسابق الزمن و يتحدى عقارب الساعة التى لا ترحم فيقطع الوقت قبل أن يقطعه كالسيف، لنرى بأعيننا منشآت ومدن وطرق ومزارع لم نكن نحلم بوجودها فى هذا التوقيت القياسى و التى كانت لتستغرق عشرات السنوات بالحسابات المعتادة، فضلاً عن الأمن والأمان والاطمئنان الذى كاد أن يُسرق منا بين ليلة وضحاها، لكن الله سلم.
ولكن للبعض أعين لا يرون بها وآذان لا يسمعون بها وعقول لا يفقهون بها وصدور تضيق حتى بأنفاسها ولا تعرف للصبر أية معنى أكثر من عدد حروف الكلمة!