لغة تتكلَّم من غير كلام، تؤثِّر من غير أصوات، تُناجي من غير أثيرٍ، تنادي من غير ضجيج، تَلِج الأعماق، تُحاكي الصدور، تُعبِّر عما يجول في العيون، تَصرخ بكلِّ هدوء.
من غير بذل أيِّ جُهد من شخوص الوجود.
تُرى ما هي؟ أصُراخ الأكباد؟ أم اصطفاف النبضات؟ أم زئير الأنفاس؟
أم هدير سَريان الدماء؟ محاكاة أرواح، مناجاة قلوب، مبادلة نظرات.
نحيب بنحيب، وأنين بأنين، وضياع بضياع، نعم إنه الصمت.
تغيب العبارات في لُججه، وتتضخَّم المعاني أمام غموضه، ويَغرق الرائي بين طيَّات أمواجه، ويَذوب الداعي في سرادقات هدوئه.
فلا تكاد تسمع إلاَّ صمتًا، ولا تَنطق شَفَتاك إلاَّ حرفًا، مَفاده أن كُفَّ، فيَعتلي حرف الصاد المزيَّن تاجَ كلامك، ويتصدَّر بريق شعورك؛ ليقول: "فقط" أمام الكم الهائل من الآخر، وأن "هيا" مع نفسك، فهي لن تذهب عنك، ولن تذهب عنها!
فأنتما معًا إلى الأبد.
لكن كيف؟! ومتى؟! وأين؟! هنا تتربَّع الأدوات ملتحمة مع بعضها؛ علَّها تبثُّ ضجيج نفس قد طال خموده، وتُثير شعورًا داخلاً قد امتدَّ إحساسه.
فتنضمُّ الأجوبة وتتَّحد مع بعضها البعض؛ لتصل إلى مركز هو المعني برسم تلك الدائرة التي ما تَنفك تبدأ حتى تنتهي، وما تَنفك تنتهي حتى تبدأ.
أهازيج رُوح لا تدري، ولست إخال أدري، أستدري؟! أصوات نفس تهذي، أنين جسد يبكي.
سابقًا كنت أتَّخذ الكلام وسيلة للتعبير عما يجول في خاطري؛ لبثِّ ما يُحرِّك وجداني، لتخفيف عبء صدمة قد حاكَت ضميري، لردِّ كلمة قد جَرحت أشجاني، لإغلاق باب حرف قد زلْزَل كِياني.
لكن وبعد أن عَلِمت أذى سهام الكلام، وكيف أنه وسيلة مُزدوجة المَضرة، تحوَّلت عنه إلى صنعة أقل تَكلفة، وأكثر فائدة، وأقوى أزرًا، وأشد شَكيمة، وأحلى حديثًا، وأطيب ملاذًا، وأذكى رائحة، وأبهى حُلَّة.
صنعة ما أن تُجَرِّبها حتى تتمرَّس بها، فتُتقنها وتَحتسبها رصيدًا لك تجده في المآزق، وتَختبئ وراءه عند المحك، وتُحوِّره عند الحاجة، دون أيِّ تبرير أو تزوير هو هو لأن ثُلَّة مَن يُتقن لغته، ومَن يَستوعب وقته، ومَن يتفنَّن في فَهمه، فتبقى أنت الآمر الناهي، العالم الجاهل، المتكلم الصامت، الثائر الهادئ، وحدك المُتقن لهذا الوضع.
فتُؤْثِر التمسُّك بهذه العادة؛ لتحقِّق أقلَّ ما يُمكن من خسائر؟ مستحضرًا قول السباعي: "العادة تبدأ سخيفة، ثم تُصبح مألوفة، ثم تغدو معبودة".
لكن، هل نُضَحِّي بأنفسنا في سبيل غيرنا؟ قانون حياتي يقتضي النجاة لأيٍّ منَّا؛ إمَّا أنا، وإمَّا أنت، إما نحن، وإما أنتم، ورُبَّما هم.
لكن آلصمت واحد، أم مختلف من شأن لشأن؟ تطبيقًا لقولهم: كنت أحبُّه في صمتٍ، وكان يرفضني في صمت، فنطَق صمتي يومًا، ففضَحني، وقد نطقَ صمته يومًا، فقتَلني.
الصمت صمت صَعِد أم نزَل، خرَج أم دخَل، ظهَر أم اختَفى، فَرِح أم حَزِن، ومكنوناتكم النفسية كفيلة في فَهم أبعاده، فهو مترجم لعدة لغات؛ يَملك الصلاحية لتأويل أيِّ شيءٍ برموزٍ لا يَفقهها إلاَّ لبيبٌ حاذق واعٍ، ماهرٌ فَطِنٌ، ويُساندنا قول أحلام مستغانمي: "تعلَّموا أن تُميِّزوا بين صمت الكبار والصمت الكبير، فصمتُ الكبار يُقاس بوَقْعه، والصمت الكبير بمُدَّته".
والسؤال الذي يطرح نفسه: متى نلجأ إلى هذه اللغة؟ أعندما تتزاحم الأمور؟ أم عندما تتآزَر الهموم؟ أم عندما تصيح الكروب؟ أم عندما نصل إلى أوْجِ الشعور، فنجد أنفسنا في قمة القمة، متجاهلين سببَ وجودنا، متناسين صحوة عقولنا، غارقين في خِضَم إيقاع قلوبنا، مُتبحِّرين في سكرة تفكيرنا، مُنتشين خمرة كلمة أُلْصِقت في أفكارنا، مُستحضرين إيماءات إنسان لطالَما حُفِرت في أفلاذنا، كاشفين ذبذبات أوْرِدة اختَلَجت مع أكبادنا، ففَضَحت مكنوناتنا بعد أن تحرَّكت نبضاتنا، وبدأَت تروي علينا قصَّتنا، تلك التي نحن أهم شخوصها، والتي كنا محور حديثها، ومبدأ جوهرها، وعنصر بدايتها، ومنتهى خاتمتها، ومختصر روايتها؟!
هم، هم، ونحن أمامهم؟ هم شيء ونحن شيء في هذا الشيء، أو رُبَّما لا شيء في هذا الشيء، ذوبان شمعة، وانخماد نار، وانطفاء نور، وذبول وردة، وانغلاق باب، ألا يضطرُّنا كلُّ ذلك إلى الصمت؟
وفي الختام: لا يَسعنا إلاَّ أن نقول: إننا نحتاج لهدوء رغم أن ما حولنا مُشبع بصمت يُشبه الموت، بيد أنه ثَمَّة شيء حولنا لا يَهدأ.
وهذه الحركة لا بدَّ أن تترجمَ مع الأثير؛ ليَطيبَ لها الوصل مع وَقْع الفؤاد، لتعتلي صَهوة الأفكار، لتعانق تعجُّبات الأرواح، لتُواجه ضروبَ كلامٍ شتَّى، لتُزيل عبء ترنيمات الصدى، لتتشخَّص في قالب الوَرى، فترتقي مع طيَّات الفضا، لتُبحر مع قطرات الندى، علَّها تصلُ بصاحبها إلى ما يسمى بالهدى.