لما تحـدثت في المبـحـثين الأول والثاني عن موقع المسجـد ، بدأت بالحـديـث هنا عن عمارة المسجد بالبناء بعد تحديد موقعه ، وذلك لنتعرف على أحكام هذا البناء وطريقتـه ، وما أعـد الله - سبحـانه وتعـالى - لمن بنى المساجـد مخـلصا لله تعـالى من ثواب عظيـم . وتفصيل هذا الحديث في المسائل التالية : - المسألة الأولى : حكم بناء المسجد وفضله :
تقدم قول عائشة - رضي الله عنها - : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد بالدور ، وأن تنظف وتطيب . وهذا الحديث ونحوه في ظاهره يدل على وجوب بناء المساجـد ، والذين يقولون بوجـوب الجماعة في المسجد يوجبون بناء المساجد لهذا الدليل ، ولأن المسجد وسيلة لتحقق الجماعة ، ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بنى مسجده ، وفعل أصحابه - رضي الله عنهم - ، والمؤمنون - بحمد الله تعالى - متفقون على أن بناء المساجد من الأمور الضرورية للمسلمين .
ولقد رتب الله - سبحانه وتعالى - فضلا عظيما لمن بنى المسجد أو شارك فيه ، فقال سبحانه وتعالى : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين . - ص 40 - الشاهد : قوله تعالى : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله
وجه الدلالة :
أن قوله ( يعمر ) : دال على العمارة بالبناء ، كما دل على العمارة بالعبادة ؛ لأن باني المسجد يتقرب إلى الله تعالى ببنائه ، فهو يـعمر المسجد طاعة لله سبحانه وتعالى .
ويستفاد من قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم .
فيستفاد من مفهوم هذه الآية الكريمة : أن من يـعمر المسـاجد ويسعى في إصلاحها مأجور عند الله ، قد عمل عملا صالحا ، يحمد عليه في الدنيا والآخرة .
قد ثبتت أحاديث في فضل بناء المساجد ، منها : -
1- عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتـا فـي الجنة . وفـي رواية : بنى الله له في الجنة مثله . متـفق عليه . - ص 41 - 2 - عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قـال : من بنى لله مسجدا صغيرا كـان أو كـبيرا بنى الله له بيتا في الجنة . رواه الترمذي ، وهو حديث حسن .
3 - عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من بنى لله مسجدا ولو مفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة . وفي رواية : ولو كـمـفحص قطاة . رواه ابن أبي شيبة ، وروي عن ابن عـباس وعـائشـة مثله .
وهذه الأحاديث متقاربة في لفظها ، متحدة في دلالتها ، إذ تدل على أن الجزاء أوفى من العمل عند الله تعالى ، فباني المسجد في الدنيا يبني الله له به بيتا في الجنة ، لا يخرب ، ولا يفنى .
وقد وردت أحاديث ، في أسانيدها للعلماء مقال ، لكنها في جملتها تتحد مع دلالة هذه الأحاديث في بيان الفضل العظيم من الله تعالى ، لمن بنى المسجد خالصا لله تعالى بنية التقرب إليه - عز وجل .
وأما قوله ولو كمفحص قطاة فقيل : إنه للمبالغة ، وقيل : إنه على الحقيقة ؛ وذلك أن الله سبحانه يجزي من ساهم ببناء المسجد ، ولو كان مقدار سهمه قليلا كمفحـص قطاة ، فإن الله لا يضيع أجره .
قلت : وهذا الصواب - إن شاء الله - ، وما كان هذا الفضل من الله - ص 42 - إلا لعظمة هذه المساجد وأهمية وجودها في الأرض للمسلمين ، وقد ذكر القرطبي - رحمه الله - أن ابن عباس ومجاهدا والحسن قالوا : " إن هذه المساجد تضيء لأهل السماء ، كما تضيء النجوم لأهل الأرض " .
ولقد كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - إذا فتحوا بلادا بنوا فيها المساجد ، وتركوا فيها من يعلم الناس الخير ، ويؤدي رسالة هذه المساجد ، باعتبارها مركزا إسلاميا لتفقيه المسلمين في شؤون دنياهم وأخرتهم .
ولا ينبغي أن يتولى عمارة المسجد بالبناء من العمال ونحوهم إلا المسلمون ما داموا موجودين وقادرين بإذن الله على ذلك ، وهم أحق وأشرف وأولى من غيرهم . وهكذا تخطيط عمارة المسجد يجب أن يكون بأيد مسلمة مؤمنة ، ولا يعتمد على أحد من الكفار في شيء من هذا .
وقد أصدرت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارا برقم 28 في 21 / 10 / 400اهـ ، نشر في مجلة البحوث الإسلامية بعدد 21 في عام 408اهـ ، وجاء فيه ما نصه : " ولما اطلع المجلس على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفـتاء في الموضوع واستمع إلى كلام أهل العلم فيه رأى بالإجماع أنه لا ينبغي أن يتولى الكفار تـعمير المساجد حيث يوجد من يقوم بذلك من المسلمين ، وألا يستقدموا لهذا الغرض أو غيره تنفيذا لوصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أن لا يجتمع في الجزيرة دينان ، وعملا بما يحفظ لهذه البلاد دينها وأمنها واستقرارها ، وإبعادا لها عن الخـطر الذي أصاب البلدان المجاورة بسبب إقامة الكفار فـيها وتوليهم لكثير من أمورها ، ولأن الكفـار لا يؤمنون من الغش عند تصـميـم مخططات المساجـد أو - ص 43 - تنفيذها فقد يصممونها على هيئة قريبة أو مشابهة لهيئة الكنائس كما حدث من بعضهم وقد يغشون في التنفيذ والبناء لأنهـم أعداء لهذا الدين ولمن يدين به من المسلمين . ويوصي المجلس بأن ينبه على الجهات الحكومية في وزارة الأشغال ووزارة الحج والأوقاف وغيرها ممن يتولى عمارة المساجد والإشراف عليها أن تلاحظ ذلك بدقة وعناية وأن تشترط في كل العقود التي تبرمها لإقامة المساجد مع المقاولين ألا يستعينوا في التصميم أو التنفيذ بأحد من غير المسلمين ، والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
. ولهذا لا بد من العناية ببناء المسجد وباختيار من يتولى تنفيذه لجميع مراحل التنفيذ . ذلك لأن المسجد قلعة الإيمان وحصن الفضيلة والمدرسة الأولى التي يتخرج فيها المسلم ويتلقى فيها العلم الصحيح ، وهو بيت الأتقياء ، ومكـان قـوة المسلمين في العلم والاسـتـعـداد والتشاور والتخطيط والاتحاد . ومنه خرجت الجيوش المؤمنة المتوضئة ففتحت مشارق الأرض ومغاربها . وللمسجد في الإسلام وظائف لا تحصى وهي عظيمة الفائدة والنفع للأمة ، لذا كان لزاما أن يكون بناء المسجد منسجما مع دوره القيادي في الأمة .
.