تكلم العلماء - رحـمهم الله تعالي - عن حكـم صلاة الجـماعة وذكروا أن من استمر على تركـها في المسجد فهو آثم .
أما حكـم أدائها في المسـجد ، فـقد اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال :
القـول الأول : أن صـلاة الجـمـاعـة بالمسـجـد سنة . وبـهـذا قـال الأحناف . والمالكية وهو أحـد الوجـهين عند الشافـعـيـة ورواية عن الإمام أحمد .
القول الثاني : أن صلاة الجماعة بالمساجد فرض عين على من تجـب عليـه ، قال به أحـمد في رواية عنه ، واخـتارها جـماعة من أصحـابه ، منهم ابن تيمية . - ص 131 - القول الثالـث : أن فـعلهـا في المسجـد فرض كـفاية . قال به بـعض الشافعية . الأدلة : استدل القائلون : بأنـها سنة في المسجد ، وأن للمسلم أن يـصليها في بيته جماعة ، بما يلي :
1 - عن يزيد بن الأسود قال : " شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجته ، فصليت معه الصبح في مسجد الخيف ، فلما قـضى صلاته انحرف ، فإذا هو برجـلين في آخر القوم لم يصليا ، قـال : علي بـهما " . فجيء بهما ترعد فرائصهما . قال : ما منعكـما أن تصليا معنا ؟ " . فقالا : يا رسول الله : قد صلينا في رحالنا . قـال : " فلا تفعـلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم ، فـإنها لكـمـا نافـلة . رواه أبو داود ، والتـرمـذي ، والنسـائي ، وإسـناده صحيح . الشاهـد : " فإنها لكما نافلة " .
وجه الدلالة :
حيث بين - صلى الله عليه وسلم - أن صلاتهما في رحالهما أجزأت عنهما ، وبين أن عليهما إذا دخلا المسجد أن يصليا مع الجماعة نافلة . - ص 132 - 2 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كـان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحـسن الناس خلقا ، فربما حضرت الصلاة وهو في بيتنا ، فـيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح ثم يقوم - صلى الله عليه وسلم - ونقوم خلفه فيصلي بنا . متفق عليه . وهذا لفظ مسلم . الشاهـد : قوله : " حضرت الصلاة وهو في بيتنا " .
وجه الدلالة :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيت أنس بن مالك - كـمـا ذكر أنـس - وهذا يدل على صحة صلاة الفريضة جـماعة بالبيت ، وأن إيـقاعها بالمسجد سنة ، وليس واجبا .
3 - ولهم أدلة كثيرة ، أهمها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : صلاة الجماعة على صـلاة الفذ بسبع وعـشرين درجـة . وفي رواية : بخـمس وعشرين درجة . متفق عليه . الشاهد : قوله : صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد .
وجه الدلالة :
أن صلاة المنفرد تفضلها صـلاة الجماعة بسبع وعشرين درجة مطلقا ؛ سواء كـانـت بمسجد أو بيت أو نحوه ؛ مما يدل عـلى أنـها في المسجـد سنة ، وأن إيقاعها بالـبيت صحيح ؛ ولأنه لمـا صحت صلاة - ص 133 - المنفرد في بيته بهذا النص ، فإن صلاة الجـماعة تفضلها بهذا النص - أيضا - سواء كانت في البيت أوفي المسجد .
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي :
أولا : بأدلة وجوب صلاة الجماعة ، ومنها :
1 - قول الله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين . قال عبد العزيز بن عبد الله بن باز - أثابه الله وحفظه - : " هذه الآية نص في وجوب الجماعة ، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة فـي ختم الآية بقوله سبحانه : واركعوا مع الراكعين لكونه أمر بإقامتها في أول الآية أ . هـ مختصرا .
2 - عن عبد الله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المسجد فرأى في القوم رقة ، فـقال : إني لأهم أن أجعل للناس إماما ، ثـم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته إلا أحرقته عليه . رواه أحـمد في المسند ولأبي داود : ثـم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرق عليهم بيوتهم . - ص 134 - ولمسلم : أن رجلا أعمى قال : يا رسول الله : ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ قال : تسـمع النداء ؟ قـال : نعـم . قـال : فـأجـب . ولأبي داود : ما أجـد لك رخصة . الشاهد : قوله : فأجب . . . ما أجد لك رخصة .
وجه الدلالة :
أن هذا الحديث نص في وجوب الجماعة بالمسجـد على من سمع الأذان ولو كان أعمى ، ليس له قـائد يأتي به إلى المسجد . لأنه - صلى الله عليه وسلم - هم بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة مع الجـماعة في المسجد بلا عذر ، وهذا الوعيد دليل على وجوب صلاة الجماعة في المسجـد ، والأدلة كثيرة . ولله الحمد .
واستدل أصحاب القول الثالث : بأنها شعيرة إسلامية ، لا يجوز الإطباق على تركـها ، وقد داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح عليها ، وعلى إقامتها في المساجد ، وقد ثبت بالأدلة الصحيحـة أن صلاة المصلي في بيته صحيحة مجزئة إذا استجمعت شروط الصحة المعتبرة شرعا .
مما تقدم يتبين لنا قوة أدلة الفريقين ، وأن صلاة الجماعة واجـبة على من توفرت فـيه شروطها ، وأن من صلى في بيتـه فصلاته صحيحـة ، - ص 135 - وقـد فـوت على نفسـه فـضل الجـمـاعة ، وهو مخـطئ . وإذا كـانـت المسـاجد هي المكان الذي تقام به الجـماعة - غالبا - فإن الصـلاة في المساجد واجبة ، ولا يحل للمسلمين هجر المساجد . قال ابن تيمية - رحمـه الله - : " إن أئـمة المسلمين متـفقون على أن إقـامـة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات ، وأجل القربات " .
وقال ابن حـجر - رحمه الله تعـالى - : " وقد خاض قـوم في تعـيين الأسباب المقتضـيـة للدرجات المذكورة - في تفضيل صلاة الجمـاعـة على الفذ بسبع وعـشرين درجة - وقـد نقحـت ما وقـفت عليه من ذلك ، وحذفت ما لا يخـتص بصلاة الجماعة ، فأولها : إجابـة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة والتبكير إليها في أول الوقت ، والمشي إلى المسجد بالسكينة ، ودخـول المسجد داعيا ، وصلاة التحـية عند دخوله ، كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة ، وانتظار الجماعة ، وصلاة الملائكـة عليه ، واسـتـغفارهم له ، وشهـادتهم له ، وإجابـة الإقامة ، والسلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة ، والوقوف منتظرا إحرام الإمام ، أو الدخول معه في أي هيئة وجده عليها ، وإدراك تكـبيرة الإحرام ، وتسوية الصفوف ، وسد فرجـها ، وجواب الإمام عند قوله : سمع الله لمن حمده ، والأمن من السهو غالبا ، وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه ، وحصول الخشوع ، والسلامة عـما يلهي غالبا ، وتحـسين الهيئة غالبا ، واحتفاف الملائكة به ، والـتدرب على - ص 136 - تجويد القراءة ، وتعلم الأركـان والأبعاض ، وإظهار شـعائر الإسلام ، وإرغام الشيطان بالاجتمـاع على العبادة ، والتعـاون على الطاعة ، ونشاط المتكاسل ، والسلامة من صفة النفاق ، ومن إساءة غيره الظن بأنه ترك الصلاة رأسا ، ورد السلام على الإمام ، والانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر ، وعود البركة - عليهم جميعا - وقيام نظام الألفة بين الجيران ، وحصـول تعاهدهم فـي أوقات الصـلاة . فـهذه خـمس وعشرون خصلة ، ورد في كل منها أمر وترغيب يخصه ، وبقي منـها أمران يختصان بالجهرية ، وهما الإنصات عند قراءة الإمام ، والاستماع لها ، والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة ، ومقتضى الخصال التي ذكرتها اختصاص التضعيف بالتجمع في المسجـد ، وهو الراجع في نظري " . أ . هـ مختصرا .
قلت : ذلك لأن المسـجـد هو مكان الجـماعة - غالبا - وهو موقـع حصول هذه الخيرات ، فلا تفوتنك أيها المؤمن ، فإن كنت عالما ، فلأنما خـير وأنت قدوة ينظر الناس إليك ، وإن كنت غير ذلك فلأنها طريق لسعادتك في الدنيا والآخرة ، فـلتحرص أخي على صـلاة الجـماعة بالمسجد .
وأما القول بأن صلاة الجماعة بالمسجد فرض كفاية ، فليـس له في نظري دليل صحيح .