مررت ذات يوم على أحد الإخوة، ممن عُرِف في الحي بحب العلم والسعي في تحصيله، بعد تبادل التحيات، انتزع هاتفه من جيبه كما يُخرِج الجاني المعترف سلاح جريمته، وقلبه معصور بالندم، ثم قال بنبرة صوت مليئة بالأسف :
"شغَلَنا هذا كثيرًا، وكم أتمنى العودة إلى العهد القديم، لما كانت الهواتف على أبسط صورها!". دار بيننا الحديث حول هذه البلوة الجديدة، والكل منا يدلي بتجرِبته الخاصة، ويعترف بالتقلبات التي أحدثتها في حياته، ثم ختم أخي قائلًا : "أنا على يقين أني لو تخليت عن هاتفي الذكي مدة شهر، لتحسن وضعي كثيرًا...".
لم يمضِ يوم وأنا أراه في الجامع، عيناه منغمستانِ في هاتفه، ألوان الشاشة تنعكس على عدسات نظارته كأنها تؤكد على حق تهمته، نظر إليَّ بمزيج من الخجل والحرج، ولسان حاله يتأسف : "لم يشغَلْنا فقط، بل أسَرنا!".
نعم يا أخي، ما أكثرَ أمثالي وأمثالك ممن دخلت هذه الوسائل الحديثة حياته كالضيف النازل ولم يلبث لحظة - أو لحيظة - حتى صار كالجليس المؤنس، الذي إذا خلي مكانه أسفنا على لوعة فراقه وتفقدناه
كم من شبانٍ بـ "سناب شات"،
و"دردشات الفيس"
و"هاشتاق التويتر"
صارت حياتهم من الفرقان إلى الدلجان!
حقًّا،
إن هذه الوسائل لوَّنت عيشتنا لونًا لم يكن عند أسلافنا الذين كانوا...
يا حسرة على ضحايا
"التقدم"
ألم ترَ هذا الذي ما إن فرغ من صلاته حتى سل جواله من جيبه، لسانه يستغفر،
وقلبه يشتاق إلى معرفة ما فاته من جديد،
كأنه أطلق سراحه بعد حبس سنين،
بينما ترتبك أصابعه بين مس الشاشة وعد التسابيح؟!
أو ذاك الآخر الذي عاهد نفسه أن يخصص من ضيق وقته حظًّا لأهله،
ولكن عينيه بالشاشة مجذوبتان كالحديد بالمغناطيس!
وإذا انقطع الكهرباء فيا لها من كارثة!
أخذ كل فرد من الأسرة يجول في البيت كالسجين في الزنزانة وهمه الوحيد الخروج من هذه الزنترة. كم من يد لم يكن المصحف يفارقها حتى حل "الجوال" محله ...
يا تُرى كيف أثرت هذه الوسائل على حركاتنا وسكوننا؟ وكيف ملأت وِجداننا بأحزانها وأتراحها؟! أطَعْتُ مطامِعِي فاستعبدتْنِي ♦♦♦ ولو أني قنعتُ لكنتُ حرَّا
. فالحذر الحذر يا من أوصِيَ بألا يحك رأسه إلا بأثر!
وها هي كلمات منيرة أسوقها إلينا؛ لعلها تلاقي أذنًا واعية وقلبًا قابلًا؛ قال شيخ الإسلام في كتاب "العبودية" "وهكذا أيضًا طالب المال : فإن ذلك المال يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان : منها ما يحتاج العبد إليه من طعامه وشرابه، ومسكنه ومنكحه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته بمنزلة ****ه الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 20، 21]، ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به، فإذا علق قلبه به، صار مستعبدًا له، وربما صار معتمدًا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه..."
يا أخي الحبيب، جاوز مرارة هذه الكلمات، إن ورائها قلبًا راجيًا عذب سعادتنا...
ما أحوجنا - يا إخوة الإسلام - أن نؤسس تعاملنا مع هذه الوسائل على قواعد الأخلاق الإسلامية. وإذا أصيب القوم في أخلاقهم ♦♦♦ فأقِمْ عليهم مأتمًا وعويلَا فلما أتى بعض المشركين سلمان - رضي الله عنه - وهم به يستهزئون فقال له : "إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة"، فرد عليهم بعز وثقة : "أجل..."
أجل، هذه أخلاق ديننا التي تميزت بشموليتها، فلا تفوتها شاردة ولا واردة.
فالبَدارَ البَدارَ إلى الإصلاح ما تبقى لنا من الأعمار