مع خضّم هذه الضوضاء داخل النفوس وخارجها، ومع تراكم أعباء الحياة الماديّة والمعنوية، يحتاج المرء أن يستدل بهدايات الكتاب والسنّة، ليخفف مايعانيه من الضغط النفسي والمعنوي، و لتصفو نفسه ويزدان إنتاجها ويعظم، وليّقدر الأمور حق قدرها..
السكينة والطمأنينة نعمةٌ من الله عظيمة للمؤمنين لا يملكها أي أحد، ولايشعر بها إلا من جرّبها وعايش آثارها، السكينة وسيلةٌ بل عمود من أعمدة الثبات ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [ابراهيم : 27].
السكينة والثبات يتحلى بهما المؤمن المتدبر للكتاب والسنة منحةً من الله تعالى، قارئ القران الملازم لتلاوته وتدبره يدرك ذلك.. يتحدّث ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة ا.هـ
و هذا من فقهه للكتاب والسنة رحمه الله، ثم يذكر ابن القيم تجربته الشخصية مع هذه الآيات فيقول: و قد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه، فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه و طمأنينته ا.هــ
إنها لحاجةٌ عظيمة لنا نحن في الزمن أن نتدبر مثل هذه الآيات ونقف معها:
في آية البقرة قال الله تعالى ﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ البقرة: 248 ] (فيه سكينة من ربكم ) قيل: معناه فيه وقار، وجلالة.
فعن قتادة ( فيه سكينة ) أي: وقار. وقال الربيع: رحمة. وقال عطاء: ( فيه سكينة من ربكم ) قال: ما يعرفون من آيات الله فيسكنون إليه . قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير هذه الآية " و ( التَّابُوتُ ) شيء من الخشب أو من العاج يُشبه الصندوق، ينزل و يصطحبونه معهم، و فيه السكينة – يعني أنه كالشيء الذي يُسكنهم و يطمئنون إليه – و هذا من آيات الله " و قال " و صار معهم - أي التابوت - يصطحبونه في غزواتهم فيه السكينة من الله سبحانه و تعالى: أنهم إذا رأوا هذا التابوت سكنت قلوبهم، و انشرحت صدورهم " اهـ
و في موقفٍ للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة لو نظر أحد المشركين إلى ما تحت قدمه لرأى النبي صلى الله عليه وسلم و صاحبه أبا بكر رضي الله عنه. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطر على البال.
﴿ إِذْ يَقُولُ ﴾ النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ لِصَاحِبِهِ ﴾ أبي بكر لما حزن واشتد قلقه، ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ بعونه ونصره وتأييده. ﴿ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ أي: الثبات والطمأنينة، والسكون المثبت للفؤاد، ولهذا لما قلق صاحبه سكنّه وقال ﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة:40]وفي الحديبية يعظم الخطب على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الشروط التي ظاهرها هضمٌ لحقوقهم، وفي هذا الموقف الشديد تنزل السكينة إذ يقول الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [ الفتح:4 ].
يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله: يخبر تعالى عن منّته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم، وهي السكون والطمأنينة، والثبات عند نزول المحن المقلقة، والأمور الصعبة، التي تشوش القلوب، وتزعج الألباب، وتضعف النفوس، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه، وينزل عليه السكينة، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال، فيزداد بذلك إيمانه، ويتم إيقانه، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم، وحط من أقدارهم، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم. وقوله: ﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ﴾ أي: جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه، ولكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر. اهـ.
وفي الحديبية أيضاً تكون بيعة الرضوان إذ يقول الله تعالى ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ [ الفتح: 18 ].
فيخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة، وكان سبب هذه البيعة "بيعة الرضوان" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائرا هذا البيت، معظما له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان لمكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق، أن عثمان قتله المشركون، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين، وكانوا نحوا من ألف وخمسمائة، فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين، وأن لا يفروا حتى يموتوا، فأخبر تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال، التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، ﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ من الإيمان، ﴿ فَأَنزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ﴾ شكرا لهم على ما في قلوبهم، زادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم، وتطمئن بها قلوبهم، ﴿ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ وهو: فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها، جزاءا لهم، وشكرا على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والقيام بمرضاته.
وفي الحديبية أيضاً تنزل السكينة و يقول الله تعالى: ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ [الفتح:26]
﴿ فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ حيث لم يحملهم الغضب على مقابلة المشركين بما قابلوهم به، بل صبروا لحكم الله، والتزموا الشروط التي فيها تعظيم حرمات الله ولو كانت ما كانت، ولم يبالوا بقول القائلين، ولا لوم اللائمين.
﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى ﴾ وهي " لا إله إلا الله " وحقوقها، ألزمهم القيام بها، فالتزموها وقاموا بها، ﴿ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا ﴾ من غيرهم ﴿ و ﴾ كانوا ﴿ أهلها ﴾ الذين استأهلوها لما يعلم الله عندهم وفي قلوبهم من الخير، ولهذا قال: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾
نسأل الله تعالى أن ينزل علينا السكينة والطمأنينة والأمن والإيمان ويصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
السكينة يجعلها الله في القلوب وقت القلاقل أو الفزع أو الاضطراب داخل النفس أو خارجها، فتثبت وتسكن وتطمئن، وهي من نعم الله العظيمة على العباد.
لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه، فسار إليهم صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين فتحوا مكة، وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة، فكانوا اثني عشر ألفا، والمشركون أربعة آلاف، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم، وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة.
فلما التقوا هم وهوازن، حملوا على المسلمين حملة واحدة، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد، ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نحو مائة رجل، ثبتوا معه، وجعلوا يقاتلون المشركين، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم، يركض بغلته نحو المشركين ويقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".
ولما رأى من المسلمين ما رأى، أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين، وكان رفيع الصوت، فناداهم: يا أصحاب السمرة، يا أهل سورة البقرة.
فلما سمعوا صوته، عطفوا عطفة رجل واحد، فاجتلدوا مع المشركين، فهزم الله المشركين، هزيمة شنيعة، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم.
وذلك قوله تعالى ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف.
﴿ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ﴾ أي: لم تفدكم شيئا، قليلا ولا كثيرا ﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ ﴾ بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم ﴿ بِمَا رَحُبَتْ ﴾ أي: على رحبها وسعتها، ﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ أي: منهزمين.
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن هنا أدرك شيخ الإسلام رحمه الله أن هداية هذه الآيات وتلاوتها وتدبرها مما يزيد الإيمان، ويقوّي التوكل على الله وحده، ويثبت النفس على الحق فكان ذلك باعثا لتلاوتها وتدبرها حتى تتنّزل السكينة والطمأنينة على العبد، وهذا هو سر كلام ابن القيم عن شيخه رحمهما الله وقوله: وكان شيخ الإسلام ابن تيمية إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة ا.هـ
فمن قرأ آيات السكينة في مواقف الخوف والفزع، أو في مواقف الشبهات والفتن، أو عند الهم والحزن، أو عند اشتداد وسواس الشيطان، يقرؤها رجاء أن يثبت الله قلبه بما ثبت به قلوب المؤمنين فلا حرج عليه، ورُجي أن يكون له ذلك، كما كان لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ولكن على ألا ينسب استحباب قراءة هذه الآيات ـ وبهذه الكيفية ـ إلى الشريعة، ولا يتخذه عبادة تشبه عبادة الأذكار والأدعية الشرعية الثابتة في الكتاب والسنة .