حفظ الله نبينا محمد صل الله عليه وسلم في الصغر
إن مِن أعظم فضائل الله تعالى على الناس أن أرسَل فيهم رسولًا هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنزَل عليه القرآن الكريم هدايةً ونورًا؛ ليُخرِج الناس من ظلمات الجهل والشرك إلى صراط الله المستقيم، ومِن عبادة الأصنام والجن والعبيد إلى عبادة الله الواحد الصمد، الذي لم يَلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كفوًا أحد.
ومِن فضائله سبحانه أن جعل معجزةَ آخر الأنبياء والمرسلين معجزةً عقليةً تخاطب العقل والقلب، وتَلفِت الأنظار إلى ما فيه العِظَات والعِبَر لأُولي الألباب، وتعرض الآيات والدلائل على وحدانية الله تعالى ليهتدي أصحاب البصائر.
ومِن فضل الله تعالى ومَنِّه أن تعهَّد عباده ووالاهم بالنِّعم، فمن عظائم ربوبيته أنه سبحانه أرسل الرسل وأنزل الكتب، ولم يتركِ الناس هملًا، بل أرشدهم إلى ما فيه سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، وذلك منذ أن خلق الله تعالى آدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36].
ولقد وعد الله تعالى مَن أطاعه، واتَّبع هُداه، وآمن برسله - أن ينصره ويُمكِّن له في الأرض، كما توعَّد مَن عصاه، وخالف هُداه، وكذَّب رسله - أن يُذِله ويُشقِيه ويجعله عبرةً للغير، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].
ومِن فضائله سبحانه أن منَّ على الناس بشريعة الإسلام التي تتَّسِم بالعدل والرحمة، فقضاؤه رحمة، وحكمه عدل، وسُننه في خلقه وكونِه فيها الحكمة والخير والنفع للبشرية كلها؛ الطائعين منهم والعصاة على السواء.
دلائل حفظ الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
إن نِعَم الله تعالى وفضائله متتابعةٌ، فبعد أن ذكَّر المؤمنين بما منَّ به عليهم من إيواء وتأييد، ونصرٍ ورزق، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الأنفال: 26] - ذَكَر هنا ما منَّ به على رسوله صل الله عليه وسلم؛ مِن حفظ، وعناية، ونجاة من كيد المشركين ومكرهم، وبيَّن سبحانه أن مكر هؤلاء المشركين مكرٌ هزيل، وأن كيدهم ومكرهم لا يَحيق إلا بهم.
وهذا درسٌ عظيم للمؤمنين عامَّة، وللدعاة خاصة، فما عليهم إلا أن يعتصموا بالله عز وجل ويتمسكوا بدين الله، ويَثْبُتوا على الطريق، ولا يَملُّوا الصدع بالحق، ولا يخافوا في الله لومة لائم، وأن يَثِقوا في تأييد الله تعالى لهم، وفي معيته سبحانه، وأنه ناصرهم، وأنه هو الذي يكفُّ بأسَ الكافرين عنهم، ويرد عنهم كيد المعاندين ومكرهم.
بَيْدَ أن حفظ الله تعالى وعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم لم تكن بعد البعثة وفي النجاة من تآمُرِ المشركين عليه فقط، بل كانت كذلك قبل البعثة، ومِن مظاهر هذا الحفظ وتلك العناية قبل البعثة ما يلي:
1- روى ابن الأثير قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((ما هممتُ بشيء مما كان في الجاهلية يعملونه غيرَ مرَّتينِ، كل ذلك يَحُول الله بيني وبينه، قلتُ ليلةً للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرتَ لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمُر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجتُ حتى إذا كنتُ عند أول دار بمكة سمعتُ عزفًا، فقلت: ما هذا؟ قالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني، فنمتُ فما أيقظني إلا حرُّ الشمس، فعُدْت إلى صاحبي، فسألني، فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت مكة فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء)) .
2- تزكية نَسَبِه عليه الصلاة والسلام؛ فهو دعوة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى عن إبراهيم: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
وقد ورد في فضل نسبِه صل الله عليه وسلم ما رواه وَاثِلة بن الأسقع[2] قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: ((إن الله اصطفى مِن ولد إبراهيم إسماعيلَ، واصطفى مِن ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى مِن بني كنانة قريشًا، واصطفى مِن قريشٍ بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)).
فنسَبُه عليه السلام يعودُ إلى إبراهيم عليه السلام، وقد جاء عليه السلام من نكاحٍ، ولم يأتِ من سفاح، فقد ذكَرَت كتبُ السيرة أن أباه رفَض أن يقع على امرأة يقال: إنها أخت وَرقة بن نوفل، حين قالت له: لك مثل الإبل التي نُحِرَتْ عنك وقَعْ عليَّ الآن؛ لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورَجَتْ أن تحمل بهذا النبيِّ صل الله عليه وسلم، فتكون أمَّه دون غيرها، فقال عبدالله فيما ذكروا:
أمَّا الحرامُ فالحِمامُ دُونَهُ
والحلُّ لا حلٌّ فأستبينَهُ
فكيف بالأمرِ الذي تبغينَهُ
يحمي الكريمُ عِرضَهُ ودِينَهُ
ثم عمد إلى آمنةَ فدخل عليها فأصابها، فحمَلت محمدًا صل الله عليه وسلم[4].
لقد اصطفى الله تعالى نبيَّه محمدًا صل الله عليه وسلم، وربَّاه على عينه، فتولَّاه بعنايته سبحانه، وأعَدَّه للرسالة العظمى، والنبوة الخاتمة، فقد ربَّاه وزكَّاه وحمَاه، وأدَّبه وهذَّبه، وشرَّفه ورفع ذِكرَه.
أما "بعد البعثة"، فمِن مظاهر حفظ الله تعالى له ما يلي:
1- أنه تعالى لم يأمره بالجهر بالدعوة إلا بعد ثلاث سنين، لما قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 1 - 7]، وكان ذلك بعد إسلام نفرٍ من أصحابه، فكانت هذه المرحلة السرية حفاظًا له صل الله عليه وسلم وصيانة له من أذى المشركين، ولأنه لما دعاهم وأنذرهم ناصَبوه وأصحابَه العداء.
2- قيَّض الله تعالى له عمَّه أبا طالب يحميه ويدافع عنه، رغم أنه كان على دين الشرك، وفي ذلك حكمةٌ أرادها الله عز وجل، فلو أسلَم أبو طالب لَما كان له عند قومِه كلمةٌ ولا مكانة، ولما أطاعوه في شيء، ولما قبِلوا وساطته بينهم وبين النبي صل الله عليه وسلم فيما عرَضوه عليه من ترك سب الآلهة، أو أن يعبدوا الأصنام يومًا ويعبدوا الله تعالى يومًا، أما وقد ظل أبو طالب على شِركِه، فقد ظلت له عند المشركين مكانة وكلمة، فكان يكفُّ عن النبي صل الله عليه وسلم الأذى، ويحميه ويدافع عنه.
3- نجاةُ النبي صل الله عليه وسلم من مؤامرة قريش بدار الندوة؛ حيث اتفق رأيُ الذين حضروا هذا الاجتماع السريَّ المغلق - والذي حضره إبليس (في صورة شيخٍ نجدي) - على قتله؛ كما جاء في كتب السيرة، قال ابن إسحاق: (ولما رأَتْ قريش أن رسول الله صل الله عليه وسلم قد صارت له شيعةٌ وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأَوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرَفوا أنهم نزلوا دارًا وأصابوا منهم منَعة، فحذروا خروج رسول الله صل الله عليه وسلم إليهم، وعرَفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفًا، قالوا: مَن الشيخ؟ قال: شيخٌ من أهل نجد، سمع بالذي اتَّعَدْتُم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمَكم منه رأيًا ونصحًا، قالوا: أجل) .
وبعد أن نجَّى الله رسوله صل الله عليه وسلم من تلك المؤامرة، وتمَّتِ الهجرة، والتقى الجمعانِ في بدر، ونصر الله تعالى نبيَّه صل الله عليه وسلم، وأعزَّ دينه - نزلت سورة الأنفال لتذكِّر بفضل الله تعالى على نبيه صل الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وعلى البشرية كلها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
مكر الكفار بالنبي صل الله عليه وسلم، لماذا؟
لقد كان النبي صل الله عليه وسلم يبلِّغ رسالة ربه ويدعو الناس، ويَعرِض نفسَه على القبائل، وكانوا ينالون منه ومن أصحابه، بالصد والتكذيب وإلقاء الاتهامات، فقالوا عنه: شاعر، وساحر، وصابئ، ويقولون للناس: لا تصدِّقوه، فكان الأمر في مكة تحت سيطرتهم، فلم يكن له كيان ولا جماعة، ولم يكن له ولا لأصحابه شوكة، ولم تكن في أيديهم قوة يُواجِهون بها قريشًا، وقد كان المسلمون مأمورِين بالصبر وعدم الاعتداء، ثم لما أسلَمَ النفر من الأنصار، وهاجر مَن هاجر مِن المسلمين إلى يثرب، وأحسَّ المشركون أن الرسول صل الله عليه وسلم سيترك مكة إلى يثرب وسيمنعه الأنصار، وسيعلو شأنه وينتشر أمره، شعروا بخطورة أمر محمد صل الله عليه وسلم، فاجتمعوا ليتشاوروا للقضاء عليه، حذرًا من أن تكون له قوة وكيان ومنَعة ودولة، فاستقر أمرهم على التخلص منه بالقتل، وهكذا يظن أعداء الإسلام أنهم يستطيعون القضاء على الدعوة بقتل الدعاة الصادعين بالحق في وجه الطغاة.
ويظن الطغاة أنهم قادرون على إبطال الحق وإعلاء الباطل، أو أن يقلبوا الأمور لتسير وَفْقَ أهوائهم ومصالحهم، وينفقون المال ويبذلون الجهد، وينشئون المؤسسات والأجهزة للصدِّ عن سبيل الله، ولكن أهدافهم سراب، ومسعاهم هباء، وكيدهم في ضلال، ومكرهم إلى ضياع؛ لأنه مكر سيئ، وعاقبةُ السوء لا تعود إلا على أهله.
|
|
|
|
pt/ hggi gkfdkh lpl] wg ugdi ,sgl td