التراث، ليس مجرد مجموعة من المشغولات اليدوية، أو المهرجانات والبرامج التلفزيونية، كما أنه ليس في الأكلات أو الأمثلة الشعبية، التراث في عصر العولمة وتقنيات الاتصال الفائقة يمثل جزءا من الحدود غير المرئية لأي وطن، سياجا يسور فكرة الشعب، وحائطا يحول دون تفكك صورة الأمة، ومن هنا يبدو الحديث عن التراث ضروريا، والمشكلة أن لدينا كثيرا من التراث نتعامل معه بانتقائية من ناحية، ونحوله إلى مجرد صورة ماضوية لا علاقة بها بالواقع الذي نعيشه. ..التراث الشعبي ؛ مجموعة أنماط المعيشة التي سادت لفترات طويلة، وتتميز عن غيرها بأنها الأكثر مواءمة مع الظروف الطبيعية التي تسود في منطقة معينة، فتراث البادية، يرتبط بمجموعة التدابير التي كان يقوم بها الإنسان البدوي ليجعل حياته ممكنة في منطقة تتصف بالندرة وبصعوبة الظروف المعيشية، بينما تراث القرية، فيرتبط بطقوس ومواسم الزراعة والحصاد، بما يعني أن التراث هو الإجابة المتحضرة التي تقوم بها المجموعة الإنسانية للأسئلة التي تلقيها الطبيعة والبيئة والمحيط العام بجميع تفاعلاته الاقتصادية والسياسية. تتغيب المظاهر التراثية في كثير من المناسبات الاجتماعية، فيحدث أن تمضي بعض الأعراس في وطننا العربي بمظاهر احتفالية تخلو من أي نكهة تراثية، فهي لا تحمل فارقا وجيها عن أي عرس يمكن أن يجري في كندا أو استراليا أو الولايات المتحدة، وفي الأخيرة، تكمن مشكلة التراث لدى الكثير من دول العالم، فالسينما الأمريكية فرضت شروطا معينة على المناسبات الاجتماعية وأخذت بعض الطبقات الاجتماعية تجاريها، مع أن هذه الطبقات تمتلك تراثا عريضا في ذاكرتها الخاصة، إلا أن النموذج المستورد المعلب الذي يتشابه مع الوجبات السريعة يفرض ايقاعه، والانسياق في هذه الحالة يبدو خاليا من المضمون والمعنى، فالأمريكيون ببساطة لا يمتلكون تراثا خاصا.
مصير التبعية والاستنساخ حضور التراث في الحياة المعاصرة هو مسألة ضرورية، ولعله أحد الأمور التي تميز الشعوب التي تريد أن تحافظ على هويتها، وبين الشعوب التي تذهب في مصير التبعية والاستنساخ، وتكون تقريبا شبيهة بالغراب الذي حاول أن يقلد مشية الحجل، وبمتابعة بعض الصحف التي تنقل أخبارا عن الجاليات العربية في المهجر، نجد أن هذه الجاليات هي الوحيدة تقريبا التي لا تحرص على ارتداء ملابسها الشعبية في المناسبات الوطنية، بينما تصر في المقابل زوجات السفراء والمبتعثين من آسيا وافريقيا على استغلال أقل فرصة من أجل ارتداء الزي الوطني الذي يحوز لديهم على مكانة لا تقل عن العلم أو النشيد الوطني، ولعل مكانته أكثر، إذ أنه يعبر عن الإنسان والمجتمع والثقافة والشعب، وليس عن مظاهر السلطة.
التمسك بالتراث الوطني. إن بعضا من المؤسسات لبعض الدول التي تمثل تلك الدول في الخارج تحاول أن تبدو أكثر عصرنة وتماشيا مع الموضة السائدة في العالم، وهذه مغالطة جوهرية، فهي لا تتعلق جملة أو تفصيلا بمدى تقدم تلك البلدان، فكثير من الدول تتمسك بأزيائها الوطنية وثقافتها الخاصة مع أنها تحقق تقدما كبيرا في جميع نواحي الحياة، وكثير من الدول تضع على وجهها مساحيق التقدم والتحضر وفق النمط الغربي بينما كل شيء لديها ينتمي إلى العالم الثالث أو الرابع. القضية ليست في الشكل، ولكن الرسالة التي يتم تصديرها للآخر، التركيز على الاختلاف والتميز، وهو الأمر الذي يعطي قيمة مضافة بعد ذلك للاندماج والتفاعل، يعطيه الثراء والأفق الواسع، والقيمة المضافة، وهو الأمر الذي يجب أن يلتفت له القائمون على العديد من المبادرات الوطنية، والشركات الوطنية.
التراث ليس مسألة احتفالية. مسألة تربوية مهمة، هو أن التراث ليس مسألة احتفالية، أو مجرد مجموعة من الدروس عن الماضي والتاريخ، ولكنه جزء من الحياة اليومية، وخلاصة حكمة لأجيال طويلة سابقة، تفاعلت مع الطبيعة والبيئة كثيرا، ومن حكمتها الجمعية أوجدت الحلول المناسبة للتعاطي مع هذه البيئة، وتمكنت من الاستمرار في حيزها المكاني ومن إعطاء مساهمتها في الحركة الزمانية، وتجاهل هذه الحكمة المتراكمة يسبب الوقوع في نفس الخطأ التاريخي والعزلة عن الماضي، وبالتالي، عدم القدرة على بناء التراكم السليم والصحي الضروري للتقدم، بعبارة أخرى، عدم القدرة على الاستفادة من الدروس التاريخية، والبدء من جديد في كل مرة، وكأن الخبرة التاريخية المتراكمة هي مجرد صور وأشكال مكانها المتاحف وبعض البرامج التلفزيونية، وليس التفكير والتأمل في أسبابها ومعانيها الثقافية والإنسانية الواسعة