ألف الناس في موسم الزيتون حكايات تمسك الفلاح بأرضه وزيتونه، ومشاهد زيت الزيتون الممزوجٍ بعبق التاريخ، ففي معصرة 'الزيتونة المُباركة' في نابلس، للزيتون والزيت طعمٌ آخر ورائحة مُختلفة.
قال صاحب معصرة الزيتون، الحاج إبراهيم محمد حواشين 'أبو بَشار'، من مواليد العام 1944 من قرية بيت إيبا في قضاء نابلس، لـ'عرب 48'، إن 'شجرة الزيتون تجسد عُمق الارتباط للإنسان بفلسطين، وهي تُذكرنا بحيفا ويافا وعكا، امتدادًا إلى قرية المنسي التي هُجرنا منها قسرًا إبان النكبة، حيث في كل موسمٍ نَعصُر حب الزيتون وينتج معه الحسرة والشتياق لأيام زمان، بعد أن هُجرنا قسرًا في حين كُنا آمنين في حيفا، وتشردنا إلى المخيمات الفلسطينية وإلى لبنان، وختامًا إلى قضاء نابلس، في حياة حافلة بالأسى والظُلم والقهر'.
عاش الحاج أبو بشار قصة تهجير عائلته 'الحواشين' بينما كان في السنة الرابعة من عمره، من قرية المنسي قضاء حيفا، إلى أن استقر في قضاء نابلس. امتلكت عائلته قبل النكبة والتهجير 3 آبار مياه للرَّي، وكانت في القرية مدرسة فيها ثلاثة كُتابٍ من أقاربه، إضافة إلى عيادة صغيرة، سكنتها العشائر العربية البدوية، كبني سعيدان، الشديرات، الحواشين وبني غرة. كانت قرية وادعة، فيها سوق واقتصاد، نظرًا لموقعها الجغرافي الجيد، وكانت الحياة طيبة فيها.
الفيلق العراقي
سرد الحاج إبراهيم حواشين قصة تهجير العائلة، 'منذ الانتداب البريطاني في العام 1917 حدثت إشكاليات كبيرة بين ما يسمى 'مشمار هعيمق' وقرية المنسي، وبعد الحرب العالمية، بدأت الأمور تشتد، حينها شكلت القيادة العربية من جيوشها السبعة جيشًا واحدا للمحافظة على فلسطين، وكان من أشرفهم الجيش العراقي. في سنة 1948 دخل الفيلق العراقي بقيادة عامر علي إلى جنين ومن جنين إلى المنسي، وسكن في بيت عمي نجيب حواشين. وفي ليلة 09.05.1948 قرر الجيش الهجوم على القرية، وأتت الأوامر بالانسحاب للجيش العراقي في تلك الليلة إلى جنين في حين كان قادة الجيش في العيادة، وفي حينه أذكر أن القائد عامر علي استل مسدسه، كان يريد أن يطلق النار على نفسه رافضًا الانسحاب، وقال، 'أنا هُنا جئت كي أدخل إلى حيفا لا أن أتراجع'، وعندما عزم على إطلاق النار على نفسه منع الضباط منه ذلك، فأجابهم باللغة الكردية، 'نحن جئنا إلى هنا للتحرير وليس للانهزام'. وعند سماع المُمرضة ما حصل، هرعت لأن تخبرنا أن الجيش العراقي سوف ينسحب إلى جنين، وبذلك قرر عمي أن نُخرج النساء إلى الرُمانة بجانب قرية زلفة، وكان هناك بئر مياه، وقفنا إلى جانبه وأسقينا الخيل، ومن ثم أكملنا إلى مدينة الطيبة، إلى عينٍ تسمى المضبعة، فأجلسوا النساء والأطفال إلى جانب نبع المياه، لغاية الاطمئنان على مصير القرية. وبعدها جاءت لأوامر بالتسليم، وجرى تسليم جميع القُرى من 'يكنعام' إلى الخط الرئيسي، الخضيرة والعفولة'.
التهجير
وتابع حواشين أنه 'بعد أن هُجرنا من القرية، وضعونا في مخيم الشُهداء في الجنزور، سكنا في خيم، وكان الشتاء يهطل علينا والبرد قارسا. وبعد عامين رحلونا إلى مخيم جنين، ومخيم نور شمس والفارعة. نحن سكنا في جنين، كانت الأوضاع الاقتصادية متدنية جدًا، والناس في حالة يرثى لها، حتى الذي كان غنيا أصابه الفقر بعد النكبة، علما أن غالبية الناس كان مصدر رزقها المواشي والزراعة، لم يستطع أحد أخذ المواشي والزراعة معه. توفي والدي في سنة 1959، كنت في الـ13 عاما من عمري، وأجبرت على العمل في جيلٍ صغير، ذهبت إلى نابلس للبحث عن عمل تارِكًا طفولتي من خلفي، عملت بثلاثة دنانير كأجرٍ شهري، 9 قروش ونصف كنت أعطيها لوالدتي، ونصيبي تعريفة كمصروف لي. وعملت في لبنان كسائق شاحنة بعد عدة سنوات، لكن الحمد لله، كانت والدتي صبورة جدا بالرغم من القهر والظلم، كانت الحياة صعبة جدا'.
حنين العودة إلى حيفا
وعن حنين العودة إلى حيفا، قال الحاج أبو بشار حواشين، إن 'منزلنا وأرضنا وآبار المياه والأشجار والأسواق والزيتون والبيوت المهدومة والمقبرة، لم تغب عن ذهني ولو لبرهة، وفي كل فرصة تُسنح لي الفرصة أزور قريتنا المُهجرة وأرضنا في حي الحليصة في حيفا. تعود بي الذاكرة إلى بابور الطحين حين اصطادوا لي طائرا علني أتوقف عن البُكاء، عندما أرى هذا النوع من الطيور أتذكر تلك اللحظة الجميلة في بداية حياتي، وبئر المياه حيث كنا نلهو هُناك، ثم ينتابني الحزن الشديد'.
وعن الحياة في أيامنا هذه، أوضح أن 'الحياة كُلها تغيرت، وأصبحت غير مريحة، لم يعد الارتباط العائلي كما كان في السابق بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعية، الارتباط بالأرض تغير سلبًا، ولم تعد له أهميته كما كان في السابق خاصة بين الشباب'.
وعن محاولات السمسرة على الأرض التابعة للعائلة في حي الحليصة في حيفا وقرية المنسي، قضاء حيفا، قال، إن 'بعض السماسرة عديمي الشرف حاولوا عدة مرات السمسرة من أجل مصادرة الأرض بشتى الطرق ال****ة، لكني عندما أدركت ذلك بعثت وثائق الطابو والمستندات إلى الأردن، خوفًا من تزويرها، وهي الآن في الحفظ والصون'.
وأنهى الحاج إبراهيم حواشين أن 'زيتون الوطن متشابك ببعضه البعض ومتجذر بأرضه، وزيتون حيفا هو زيتون يافا، وزيتون يافا هو زيتون جنين ونابلس. نحن نحب الزيتون كما أحبه أجدادنا على أملٍ أن نغدو لمستقبلٍ أفضل. ومهما اختلفت حبته واخضرّت ورقته وصلُب جذعه، فسأبقى تواقٌ إلى زيتون حيفا، ليس كمثله أي زيتون، إنه يذكرني بطفولتي التي تمنيت أن تستمر كما كانت'.