من مات على شيء بعث عليه يوم القيامة
إن الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:
أسأل الله رب العرش العظيم لي ولكم أن إسترنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين وأن شفع فينا رسولنا وحبيبنا عليه الصلاة والسلام آمين..
محاضرة للشيخ محمد حسان بالتوضيح
أتمني لكم الفائدة .؛
أحبتي في الله.. إن الهدف من هذا الأسلوب الوعظي هو تذكير الناس بحقيقة الآخرة ، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسموات؛ ليتذكر الناس ربهم جل وعلا، وليتوبوا إليه سبحانه قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ[يس:50].
كُنا قد تكلمنا عن مشاهد يوم الحشر التي تخلع القلوب! حينما يخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً، كل يبعث على نفس الهيئة التي مات عليها!
فمن مات على طاعة بعث على تلك الطاعة، ومن مات على معصية بعث على نفس المعصية، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).
فمن الناس من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن بين يديه، وعن يمينه: نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[التحريم:8] ،
ومنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة،
ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم،
ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة،
ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية،
ومنهم من يبعث وهو ينطلق في أرض المحشر قائلاً: لبيك اللهم لبيك ، من هذا؟! إنه الذي مات بلباس الإحرام في حج أو عمرة،
ومنهم من يبعث وينبعث منه الدم: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، من هذا؟! إنه الشهيد في سبيل الله جل وعلا،
ومنهم من يبعث ولسانه مدلىً على صدره! منظر بشع! من هذا؟! هذا الذي أكل لحوم الناس في الدنيا بالغيبة،
ومنهم من يبعث وأظفاره من نحاس يمزق بها لحم وجهه! ويقطع بها لحم صدره، من هذا؟! هذا هو الذي آذى الناس في الدنيا،
ومنهم من يبعث وقد انتفخت بطنه لا يقوى على القيام في أرض المحشر! بل تراه يتلبط ويتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس، من هذا؟! إنه آكل الربا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا[البقرة:275]،
وهذا رجل ينطلق من قبره إلى أرض المحشر عرياناً ومن حوله مجموعة من الأطفال الصغار يجرونه جراً، ويدفعونه دفعاً للوقف بين يدي الله سبحانه ، من هذا؟!!،؛ ومن هؤلاء؟! هؤلاء هم اليتامى وهذا آكل أموال اليتامى ظلماً: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء10]،
ومنهم من يبعث وكأس الخمر في يده وهو أنتن من كل جيفة! ومنهم من يبعث وهو يحمل على كتفه ما سرقه في هذه الحياة الدنيا! قال تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]. إنها مشاهد تخلع القلوب.؛
عباد الله .. لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
فمن مات ساجداً بعث يوم القيامة ساجداً،
ومن مات موحداً بعث يوم القيامة موحداً،
أسأل الله إن يجعلنا منهم آمين.؛؛
ومن مات على معصية بعث يوم القيامة على نفس المعصية.
اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين!
أما المتكبرون !!
الذين انتشوا وانتفخوا في الدنيا ولم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخفضوا جناح الذل لخلق الله!، بل تراه مغروراً بكرسيه الذي جلس عليه.. تراه مغروراً بمنصبه.. تراه متكبراً بماله.. تراه متكبراً بسلطانه وجاهه.
هل عرفتم صورة حشر هذا المتكبر؟!!
إنه سيحشر بمنظر وبهيئة لو عرفها لوضع أنفه في التراب ذلاً لمولاه! ولخفض جناح الذل لخلق الله.
يا بن التراب ومأكول التراب
غداًَ اقصر فإنك مأكول ومشروب.
علام الكبرياء يا بن آدم يا مغرور؟!
يا أيها الإنسان المتجبر المتكبر ما غرك؟!.. مر أحد السلف على رجل متبختر مختال في مشيته، فقال له هذا الرجل الصالح: يا أخي! هذه مشية يبغضها الله ورسوله. فقال له المتكبر المنتفخ: ألا تعرف من أنا؟! قال: نعم أعرفك، فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة! من أنت أيها المتكبر؟! من أنت أيها المغرور؟!!
تصور معي مشهد حشر المتكبر يوم القيامة!.. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم والحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صور الرجال). تطؤه الأقدام.
الناس يطئون النمل بأقدامهم وهم لا يشعرون، فكذلك يحشر المتكبر يوم القيامة كالذر! تدوسه الأقدام والأرجل؛ لأنه كان منتفخاً.. متعالياً.. متكبراً.. مغروراً في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، فكما انتفخ واستعلى يحشر يوم القيامة في غاية الذلة والمهانة، تطؤه الأرجل والأقدام، وهم في طريقهم إلى الرحيم الرحمن جل وعلا. (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، تطؤهم الأرجل، يعلوهم الذل من كل مكان).
صور رهيبة! مشاهد تخلع القلوب لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد،
فإذا ما وصلت الخلائق كلها إلى أرض المحشر: تنزلت الملائكة ضعف من في الأرض، وتحيط الملائكة بأهل الأرض من كل جانب ومن كل ناحية، وهل يا ترى! ينتهي هذا البلاء وهذا الكرب؟!
لا والله، بل إن الموقف فيه من الأهوال والكروب ما يخلع القلوب. يارب سلم..؛
أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام
إذا كان المصطفى هو أول من يبعث يوم القيامة،
فإن أول من يُكسى يوم القيامة هو خليل الله إبراهيم.
كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاةً عراةً غُرْلاً، وأول الناس يُكْسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام).
وفي رواية البيهقي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أول الناس يُكسى من الجنة يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ويؤتى بي -أي: بالحبيب المصطفى- فأُكسى حُلّة من الجنة لا يقوم لها البشر).
وتكلم علماؤنا عن حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكسوة يوم القيامة.
ومن أجمل ما ذكره أهل العلم: أن المشركين لما هموا بحرق إبراهيم في النار، وأشعلوا النار المتأججة التي ارتفع لهيبها في عنان السماء حتى كانت الطيور تسقط من ارتفاع لهب هذه النيران! وظلوا يجمعون لها الحطب شهوراً وأياماً، فلما هموا بإلقائه جردوه من كل ثيابه، فلما صبر إبراهيم واحتسب وتوكل على الله جازاه الله سبحانه وتعالى على ذلك،؛ فوقاه حر النار في الدنيا والآخرة،
وكافأه يوم القيامة فكساه على رءوس الأشهاد.
فأول من يبعث هو الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الناس يُكسى هو الخليل إبراهيم عليهما وعلى جميع النبيين والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام.؛ وبعد البعث حشر.
أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم
أول من يبعث، وتنشق عنه الأرض يوم القيامة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم،
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مُشَفَّع)