05-02-2017, 11:33 AM
|
|
|
|
مقام أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -
مقام أبو الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -
الحمد لله رب العالمين، الله - تعالى - ولي المتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الهادي الأمين، الداعي إلى صراط مستقيم، أما بعد:
قال الله - سبحانه -: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ}1 فإن مقام إبراهيم آية من آيات الله البينات إلى يوم القيامة، ولهذا المقام ذكرى عبقة في ذاكرة التاريخ سارت بها الركبان جيلاً وراء جيل، وهنا استعراض بسيط لهذا المقام الضارب بأطنابه في أعماق الزمن.
قصة المقام:
رواها سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((لما أتى إبراهيم إسماعيل وهاجر موضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون، وتزوج إسماعيل منهم امرأة، وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم مكة وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد - وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد -، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم فقالت: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم، فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ فقالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا - كالمستخفة بشأنه -، قال: فما قال لك، قالت: قال: اقرئي زوجك السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، قال: ذلك أبي، وقد أمرني أن أفارقك؛ إلحقي بأهلك فطلقها، وتزوج منهم بأخرى فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم - عليه السلام - حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد وهو يجيء الآن - إن شاء الله -، فانزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركة، - ولو جاءت يومئذ بخبز وبر أو شعير أو تمر لكانت أكثر أرض الله براً أو شعيراً أو تمراً - فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن، ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر، فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن الناس وجهاً، وأطيبه ريحاً، وقال لي كذا وكذا، وقلت له: كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه، فقال: ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دوحة قريبة من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن الله - تعالى - أمرني بأمر تعينني عليه، قال: أعينك عليه، قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على الحجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}2))3.
ما جاء في فضائله:
- أن الله - تعالى - نوه بذكره من جملة آياته البينات فقال - عز وجل -: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}4قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: "إن أول بيت وضع للناس مباركاً وهدى للعالمين للذي ببكة، فيه علامات بينات من قدر الله وآثار خليله إبراهيم، منهن أثر قدم خليله إبراهيم - عليه السلام - في الحَجَر الذي قام عليه".5
ومن فضائله: أن الله - تعالى - أمر المسلمين باتخاذه مصلى في الحج والعمرة، وذلك في قوله - تعالى -: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}6.
ومن فضائله: أنه ياقوتة من يواقيت الجنة، فقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنه قال: "أنشد بالله ثلاثاً - ووضع أصبعه في أذنيه - لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب))7 وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي طَمْسِهِمَا لِيَكُونَ الْإِيمَانُ غَيْبِيّاً لَا عَيْنِيّاً قاله صاحب تحفة الأحوذي.8
أثر موطئ القدم:
لما وطئ إبراهيم في الصخرة كانت رطبة على قدميه، حافياً غير ناعل، حتى أنهما ساختا في الصخرة يوم كان يرتفع عليها حين ارتفاع البناء، وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضاً كما قال ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثهم قال: "رأيت المقام فيه أصابعه - عليه السلام -، وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم"، وقال ابن جرير: "وجاء عن قتادة في قوله: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، وقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه، فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى"9.
أصل موقع المقام:
هذا الحجر الأثري كان موقعه ملصقاً بجدار الكعبة عن يمين الباب، فقد روى البيهقي في سننه أن المقام في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن أبي بكر كان ملصقاً بالبيت، حتى أخره عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وذكر ابن حجر العسقلاني في الفتح أن المقام كان في عهد إبراهيم - عليه السلام - لزق البيت، إلى أن أخره عمر إلى المكان الذي هو فيه الآن.
وذكر ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: {وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}10 ما نصه "وقد كان هذا المقام ملتصقاً بجدار الكعبة قديماً، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر - بكسر الحاء - يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل - عليه السلام - لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا والله أعلم أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للضرورة، وهو أحد الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر))11، ولهذا لم ينكر أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين، قال سفيان يعني ابن عيينة - وهو إمام المكيين في زمانه -: "كان المقام من سقع البيت على عهد - رسول الله صلى الله عليه وسلم -، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه، هذا فرده عمر إليه، وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، وقال: ولا أدري أكان لاصقاً بها أم لا، فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكر"12.
وقد ذكر في تفسير الآية {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}13 في أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة، ودخولها، وطمس التماثيل، وأنه أخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة فألزقه في حائطها، ثم قال: ((أيها الناس هذه القبلة)).... إلى آخر كلامه في تفسير هذه الآية.14
مكان المقام:
ذكر أهل التفسير أقوالاً في مكان مقام إبراهيم - عليه السلام -:
القول الأول: أنه موضع الحجر قام عليه إبراهيم - عليه السلام -، ثم هؤلاء ذكروا وجهين أحدهما: قام على حجر وهو مقام إبراهيم - عليه السلام -.
القول الثاني: أن مقام إبراهيم الحرم كله، وهو قول مجاهد.
الثالث: أنه عرفة والمزدلفة والجمار وهو قول عطاء.
الرابع: الحج كله مقام إبراهيم وهو قول ابن عباس.
واتفق المحققون على أن القول الأولى أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: ما روى جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من الطواف أتى المقام، وتلا قوله - تعالى -: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}15، فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدل على أن المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهر.
وثانيها: أن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، والدليل عليه أن سائلاً لو سأل المكي بمكة عن مقام إبراهيم لم يجبه، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع.
وثالثها: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بالمقام ومعه عمر فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أليس هذا مقام أبينا إبراهيم، قال: بلى، قال: أفلا نتخذه مصلى، قال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس من يومهم حتى نزلت الآية.
ورابعها: أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم - عليه السلام -، وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله - تعالى -، ومعجزة إبراهيم - عليه السلام -، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به، فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى.
وخامسها: أنه - تعالى - قال: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى}، وليس للصلاة تعلق بالحرم، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع، فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع.
وسادسها: أن مقام إبراهيم هو موضع قيامه، وثبت بالأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل، ولم يثبت قيامه على غيره، فحمل هذا اللفظ أعني مقام إبراهيم - عليه السلام - على الحجر يكون أولى.
قال القفال: "ومن فسر مقام إبراهيم بالحجر خرج قوله - تعالى -: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} على مجاز قول الرجل: اتخذت من فلان صديقاً، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، ووهب الله لي منك ولياً مشفقاً، وإنما تدخل (من) لبيان المتخذ الموصوف وتميزه في ذلك المعنى من غيره والله أعلم"16.
المقام مقاييس وأذراع:
ذكر صاحب "الأعلاق النفيسة" أحمد بن عمر بن رسته: " أن ذرع المقام ذراع، والمقام مربع، سعة أعلاه أربعة عشر أصبعاً، في أربعة عشر أصبعاً، ومن أسفله مثل ذلك، في طرفيه من أعلاه وأسفله فيما مضى طوقان من ذهب، وما بين الطوقين من حجر المقام بارز لا ذهب عليه من نواحيه، كلها تسعة أصابع عرضاً، في عشرة أصابع طولاً، وذلك قبل أن يجعل عليه هذا الذهب الذي هو عليه اليوم من عمل المتوكل على الله، وعرض حجر المقام من نواحيه إحدى وعشرون أصبعاً، وسطه مربع، والقدمان داخلتان في الحجر سبعة أصابع، ودخولهما منحرفتان، وبين القدمين من الحجر أصبعان، وسطه قد استدق من التمسح به فيما مضى، والمقام في حوض من ساج مربع، حوله رصاص، وعلى الحوض صفائع رصاص مليس بها".
وقد قاسه من علماء العصر بالحجاز بالمقاس الحديث - السنتميتر - الشيخ محمد طاهر بن عبد القادر الكردي الخطاط بالمعارف العامة بمكة، فقد قال في كتابه المسمى - مقام إبراهيم -: "وأما حجم المقام الكريم فهو يشبه المكعب، ارتفاعه عشرون سنتيمتراً، وطول كل ضلع من أضلاعه الثلاثة من جهة سطحه ستة وثلاثون سنتيمتراً، وطول ضلعه الرابع، ثمانية وثلاثون سنتيمتراً، فيكون مقدار محيطه من جهة القاعة نحو مائة وخمسين سنتيمتراً، وفي هذا الحجر الشريف غاصت قدما خليل الله - تعالى - سيدنا إبراهيم مقداراً كبيرا اًلى نصف ارتفاع الحجر، فعمق إحدى القدمين عشرة سنتيمترات، وعمق الثانية تسعة سنتيمترات، ولم نشاهد أثر أصابع القدمين مطلقاً، فقد انمحى من طول الزمن، ومسح الناس بأيديهم، وأما موضع العقبين فلا يتضح إلا لمن دقق النظر وتأمل.
وحافة القدمين الملبستين بالفضة أوسع من بطنهما، من كثرة مسح الناس بأيديهم، وطول كل واحدة من القدمين من سطح الحجر والفضة سبعة وعشرون سنتيمتراً، وعرض كل واحدة منها أربعة عشر سنتيمتراً، أما قياسهما من باطن القدمين من أسفل الفضة النازلة فيهما فطول كل واحدة منها اثنان وعشرون سنتيمتراً، وعرض كل واحدة منهما أحد عشر سنتيمتراً، وما بين القدمين فاصل مستدق نحو سنتيمتر واحد، وقد استدق هذا الفاصل من أثر مسح الناس له بأيديهم للتبرك، وكذلك اتسع طول القدمين وعرضهما من أعلاهما، بسبب المسح أيضاً، ومع أنه قد مر على حجر المقام أكثر من أربعة آلاف سنة فإن معالمه وهيئة القدمين واضحة بينة، لم تتغير ولم تتبدل، وتبقى كذلك إلى يوم القيامة مصداقاً لقوله - تعالى -: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ}17"18.
وقد ذكر كغيره انمحاء أكثر الآثار الهامة من المسح بسبب تمسح المخرفين، الذين شرعوا لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله، حتى ذكروا عن رجل عاصر ذلك العهد خبر أولئك الانتهازيين الماديين المنحرفين، وأنه كان بعض المشرفين المتصرفين في المقام وغيره في العهد الذي قبل العهد السعودي؛ يضع الماء - ماء زمزم - في موضع القدمين، ويبيع الطاسة الصغيرة بريال فضة، فكانت الطاسة تحك بالحجر أحياناً، وموضع الحك بها قد يشاهده من أمعن النظر فيه، يقول: وقد رأيت ذلك الإناء بعيني مربوطة بسلسلة من شباك الحجر، والله أعلم بما يصنعون، فنعوذ بالله من جرم بلا عمل.
ولكن الذي يؤسف له هو ضياع أكثر الأثر الثمين الذي وصفه الله بأنه {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} في سبيل المعتقدات الفاسدة والانتهازات، وكل هذا من ضعف التوحيد الذي جعلهم يفعلون ما لا يؤمرون، ويرجحون مرادات أنفسهم على مرادات ربهم العزيز الجبار الواحد القهار، ولكنه سبحانه غالب على أمره، فقد سخر له رجالاً ليعيدوا كشف النقاب عنه بعد اختفائه، لتظهر وتبرز آيات الله البينة، ولله الفضل أولاً وأخراً.
وهذه الآية البينة لم تكن لغير آل البيت الحرام، وهي من الشواهد الأثرية على بناء إبراهيم، ومن بناه فهو أحق بالاستقبال من غيره، وقد ذكرنا ضبط مقاساته خدمة للمسلمين.
تحويل المقام إلى مكان آخر:
قد حصل خلاف هذه السنوات في تحويل المقام عن مكانه إلى ما يعادله من الشرق بسبب الضيق والازدحام، وقد أفتى أكثر العلماء منهم الشيخ محمد بن إبراهيم بجوازه للضرورة التي هي أشد من الضرورات التي حدت بأمير المؤمنين إلى تحويله، وقد أبدوا تعليلات كافية مقنعة لكل منصف، ولكن حصلت معارضة في وقت كانت السماء كثيفة بالغيوم، فتوقف التنفيذ إلى تحريك جديد نرجو من الله تعجيله ما دامت السماء صحواً.
الدلالة العقدية من المقام:
والمقصود أن هذا المقام الحي أفحم اليهود، ودمغهم بالحقائق التاريخية التي يتجاهلونها؛ لتشكيك المسلمين، وبلبلة خواطرهم في معركتهم الجدلية الخبيثة الأهداف، والذين جعلوا القبلة محوراً لجدلهم يبدئون فيها ويعيدون، زاعمين أنهم ورثة إبراهيم، وأن القدس هي قبلة الأنبياء أجمعين.
فدحض الله شبهتهم بأمور لا يجهلونها، بل حتى عرب الجاهلية يعرفونها كابراً عن كابر، وهي القداسة العظيمة والفضل الكبير للكعبة البيت الحرام التي فيها آيات بينات في غاية الظهور والذي منها: مقام إبراهيم الذي يعرفه حتى الجاهليون، ويحترمونه، حتى أنهم جعلوه داخل الكعبة، ويقول فيه أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل فالقرآن الكريم يلمس اليهود حقيقة الأمر بطريقة حسية لا تقبل الجدل والمراوغة، ويأمر محمداً - عليه الصلاة والسلام - أن يصارحهم: {قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}19، فهذه الآيات البينات العظيمة الظاهرة المحسوسة تدلهم على حقيقة دين إبراهيم، وأنه الميل عن كل شرك وهوى، وقد جرى تأكيد هذه الحقيقة مراراً، وأوضحت هذه الآيات أن الاتجاه إلى الكعبة هو الأصل الأصيل؛ لكونها أول بيت وضع للناس قبل بيت المقدس، فلم يبق عند اليهود إلا العناد والاستكبار عن الحق، واستبداله بالباطل كما هي عادتهم20.
السنة عند المقام:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ينتهي من الطواف يصلى ركعتين خلف مقام إبراهيم يقرأ في الأولى الكافرون، وفي الثانية الإخلاص كما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه -، وأما غير هذا فلم يشرع يقول ابن تيمية: "حَتَّى مَقَامَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي بِمَكَّةَ لَا يُقَبَّلُ وَلَا يُتَمَسَّحُ بِهِ، فَكَيْفَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَقَامَاتِ وَالْمَشَاهِدِ"21، وقال في موضع آخر "ولما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - استلم الركنين اليمانيين ولم يستلم الشاميين؛ لأنهما لم يبنيا على قواعد إبراهيم، فإن أكثر الحجر من البيت، والحجر الأسود استلمه وقبله، واليماني استلمه ولم يقبله، وصلى بمقام إبراهيم ولم يستلمه ولم يقبله، فدل ذلك على أن التمسح بحيطان الكعبة غير الركنين اليمانيين، وتقبيل شيء منها غير الحجر الأسود؛ ليس بسنة، ودل على أن استلام مقام إبراهيم وتقبيله ليس بسنة"22.
هذا ما رأينا من المناسب استعراضه في الحديث عن مقام إبراهيم، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
................................................
1سورة آل عمران (97).
2 سورة البقرة (127).
3تفسير البغوي (1/113).
4آل عمران (97).
5 تفسير الطبري (4/11).
6 البقرة (125).
7 الترمذي برقم (804)، وأحمد في مسنده برقم (6705)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير برقم (5872).
8 تحفة الأحوذي (3/526).
9 تفسير ابن كثير (1/171).
10سورة البقرة (125).
11 رواه الترمذي برقم (3595)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير (5/470).
12 تفسير ابن كثير (1/172).
13سورة النساء (58).
14 الدر المنثور (2/570).
15سورة البقرة (125).
16 التفسير الكبير (4/44-45).
17سورة آل عمران (97).
18 الأعلاق النفيسة - مقام إبراهيم -.
19سورة آل عمران (95-97).
20 الحج أحكامه - أسراره - منافعه للعلامة عبد الرحمن الدوسري (38).
21 مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/284).
22 مجموع الفتاوى (17/476).
|
|
|
|
lrhl Hf, hgHkfdhx Yfvhidl - ugdi hgsghl lrhg hgHkfdhx hgsghl ugdi
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ ملاك الورد على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 07:40 AM
|