الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط، وكاشف الضر بعد القنوط، الذي خلق الخلق، ووسع الرزق، وأفاض على العالمين أصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، ورددهم فيها بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والثروة والإفلاس، والعجز والاستطاعة، والحرص والقناعة، والبخل والجود، والفرح بالموجود، والأسف على المفقود، والإيثار والإنفاق، والتوسع والإملاق، والتبذير والتقتير، والرضا بالقليل واستحقار الكثير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً، وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً، واتخذ الدنيا ذخيرة وخولاً، والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً، وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف، واسعة الأرجاء والأكناف، ولكن الأموال أعظم فتنها وأطم محنها، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، ثم إذا وجدت فلا سلامة منها، فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإن وجد حصل منه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسراً..1
أيها المسلمون:
لقد سمى الله سبحانه المال خيراً في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: كُتِبَ عَليكُم إِذا حَضَرَ أَحَدُكُم المَوت إن ترك خيرا الوصية (180) سورة البقرة، وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) سورة العاديات، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإنما يأتي بالشر معصية الله في الخير لا نفسه. وأَعلمَ اللهُ سبحانه أنه جعل المال قواماً للأنفس، وأمر بحفظه ونهى أن يؤتى السفهاء من النساء والأولاد وغيرهم، ومدحه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (نعم المال الصالح مع المرء الصالح)2 وقال سعيد بن المسيب: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطي حقه. وقال أبو إسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عوناً على الدين. وقال محمد بن المنكدر: نعم العون على التقى الغنى. وقال سفيان الثوري: المال في زماننا هذا سلاح المؤمن. وقال يوسف بن أسباط: ما كان المال في زمان منذ خلقت الدنيا أنفع منه في هذا الزمان، الخير كالخيل لرجل أجر ولرجل ستر، وعلى رجل وزر.
وقد جعل الله سبحانه المال سبباً لحفظ البدن، وحفظه سبب لحفظ النفس التي هي محل معرفة الله والإيمان به وتصديق رسله ومحبته والإنابة إليه، فهو سبب عمارة الدنيا والآخرة وإنما يذم منه ما استخرج من غير وجهه، وصرف في غير حقه، واستعبد صاحبه، وملك قلبه، وشغله عن الله والدار الآخرة، فيذم منه ما يتوسل به صاحبه إلى المقاصد الفاسدة أو شغله عن المقاصد المحمودة، فالذم للجاعل لا للمجعول.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)3 فذم عبدهما دونهما. 4
أيها المسلمون:
إن حب المال غريزة في النفس البشرية، وجبلة في الطبيعة الإنسانية، وليس الإثم والعتب في حب المال إنما الإثم يقوم على أمرين: سوء جمع المال، وسوء أنفاقه.
فإن حب المال يدفع كثيراً من الناس إلى جمعه من كل طريق، وتحصيله بكل وسيلة شرعية أو شيطانية، فالمهم عنده الحصول على مال كثير وكسب وفير.
والإثم الآخر يكون في إنفاق المال في غير محله أو منع أصحاب الحقوق منه، كحق الزكاة، وحق الأهل الذين أوجب الله تعالى الإنفاق عليهم.
وهناك أمر آخر يكون مذمة في المال وهو أن يشغل المال المسلم عن العمل للدار الآخرة.
فأما من كان المال له وسيلة إلى تحصيل الحلال، وكف الأكف عن الناس، ونفع الآخرين، والأنفاق في سبيل الله تعالى فهذا من أشرف المقاصد وأعظم القربات.
فالمال -يا عباد الله- فتنة وهو زهرة الدنيا والدنيا حلوة خضرة فمن أخذ المال بحقه ووضعه في حقه بورك له فيه وكان على ذلك مشكوراً، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك بقوله: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).5
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها). فقال رجل: يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما شأنك تكلم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يكلمك؟ فرأينا أنه ينزل عليه، فمسح عنه الرحضاء (أي العرق) فقال: (أين السائل؟) وكأنه حمده، فقال: (إنه لا يأتي الخير بالشر، وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يُلِمُّ، إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت. وإن هذا المال خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل) -أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- (وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيداً عليه يوم القيامة).6
والإنسان مسؤول عن ماله هذا من أين جمعه وفيم صرفه وأنفقه، كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).7
أيها المسلمون:
لقد شغل المالُ كثيراً من الناس اليوم عن القيام بالواجبات الشرعية، وبسبب جمعه قست القلوب، فقد أصبح المال الغاية والوسيلة، بينما كان عند المسلمين الأولين السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابعيهم وسيلة لتحصيل غاية، تلكم الغاية هي إعفاف النفس وكفها عن الناس، والتصدق في وجوه البر وأنواع القربات.
أما في زماننا فقد أصبح المال غاية عظمى واستخدمت في سبيل تحصيله كل السبل ولم يسلم من ذلك إلا من عصمه الله بالتقوى والإيمان والخوف من الملك الديان.
ألا فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن هذا المال فتنة ومحنة، فمن أخذه في حقه ووضعه في حقه كان موفقاً صالحاً، ومن أخذه من غير حقه ووضعه في غير حقه، أو أخذه من حقه ووضعه في غير حقه، كان بائراً خاسراً، إلا أن يتدارك نفسه بتوبة وإنابة إلى الله العزيز الحكيم.
اللهم وفقنا للعمل بما يرضيك، وجنبنا أسباب سخطك وغضبك يا رب العالمين..
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خول عباده من الأموال ما
به تقوم مصالح دينهم ودنياهم، وجعل لتحصيلها وتصريفها طرقاً شرعها لهم وبينها وهداهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ومولاهم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أكرم الخلق وأزكاهم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس! اتقوا الله تعالى واعلموا أن هذه الأموال التي بين أيديكم جعلها الله تعالى فتنة لكم، فتنة في تحصيلها، وفتنة في تمويلها، وفتنة في إنفاقها. فأما الفتنة في تحصيلها فإن الله تعالى شرع لتحصيلها طرقاً معينة مبنية على العدل بين الناس واستقامة معاملتهم، بحيث يكسبها الإنسان من وجه طيب ليس فيه ظلم ولا عدوان، فانقسم الناس في ذلك قسمين: قسماً اتقى الله تعالى وأجمل في الطلب، اكتسبها من طريق الحلال فكانت بركة عليه إذا أنفق، ومقبولة منه إذا تصدق، وأجرا له إذا خلفها لورثته، فهو غانم منها دنيا وأخرى، والقسم الثاني: لم يتق الله ولم يجمل في الطلب، فصار يكتسب المال من أي طريق أتيح له من حلال، أو حرام من عدل أو ظلم، لا يبالي بما اكتسب، فالحلال عنده ما حل بيده، فهذا المال الذي اكتسبه من طريق محرم إن أنفقه لم يبارك له فيه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن خلفه بعده كان زادا له إلى النار، لغيره غنمه وعليه إثمه وغرمه. فهذه فتنة المال في تحصيله. وأما فتنة المال في تمويله فمن الناس من كان المال أكبر همه، وشغل قلبه، ولا نصب عينه إلا المال، إن قام فهو يفكر فيه، وإن قعد فهو يفكر فيه، وإن نام كانت أحلامه فيه، فالمال ملء قلبه، وبصر عينه، وسمع أذنه، وشغل فكره، يقظة ومناما، حتى عباداته لم تسلم فهو يفكر في ماله في صلاته وفي قراءته وفي ذكره، كأنما خلق المال وحده، فهو النهم الذي لا يشبع، والمفتون الذي لا يقلع، ومع ذلك الهم والفتنة فلن يأتيه من الرزق إلا ما كتب له، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.
ومن الناس من عرف للمال حقه ونزله منزلته، فلم يكن أكبر همه ولا مبلغ علمه، وإنما جعله في يده لا في قلبه، فلم يشغله عن ذكر الله ولا عن الصلاة، ولا عن القيام بشرائع الدين ولا فروضه، بل جعله وسيلة يتوسل بها إلى فعل الخيرات ونفع القرابات، وذوي الحاجات، فهذا هو صاحب العيش الرغد المحصل لما كتب له في الرزق، من غير تعب في قلبه ولا نكد.
وأما الفتنة في إنفاق المال فإن الناس انقسموا إلى ثلاثة أقسام: منهم البخيل الذي منع حق الله وحق عباده في ماله، فلم يؤد الزكاة ولم ينفق على من يجب الإنفاق عليه من الأهل والمماليك والقرابات، ومن الناس المسرف المفرط الذي يبذر ماله وينفقه في غير وجهه وفيما لا يحمد عليه شرعاً ولا عرفاً، فهذا من إخوان الشياطين، ومن الناس من إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا قد بذلوا الواجبات، وكملوها بالمستحبات، وبذلوا ما يحمدون عليه في العادات، فهؤلاء هم عباد الرحمن الذين إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) سورة الفرقان.
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأجملوا في طلب الأموال، اطلبوها على وجه مباح حلال، فإنكم لن تبقوا للمال أبداً، إنما المال عارية بين أيديكم وأنتم عارية في هذه الدنيا، فإما أن تنتقلوا عنه وتتركوه وأنتم أزهد الناس فيه، وإما أن يسلب من أيديكم وأنتم أحرص الناس عليه، فتبوؤا بالحسرة والندامة.8
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
1 إحياء علوم الدين - (ج 2 / ص 420).
2 رواه أحمد وابن حبان، وهو صحيح.
3 رواه البخاري.
4 عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم (ج 1 / ص 112).
5 رواه مسلم.
6 رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري.
7 رواه الترمذي والطبراني واللفظ له، وحسنه الألباني.
8 الضياء اللامع من الخطب الجوامع ، لابن عثيمين رحمه الله (ج 2/ص 7-10).