سنة ربانية.. تُربِّي المُسلمَ على التسليم المُطلَق لله استِشعار سُنَّة الجزاء من جنسِ العمل، واستِحضارها في كل المواقِف والأحداث، يمنَحُ العبدَ اليقينَ بعدل الله وحكمته، وأنه القادرُ على كل شيءٍ
ألقى فضيلة الشيخ خالد الغامدي -حفظه الله- خطبة الجمعة بعنوان: (الجزاء من جنسِ العمل)؛ حيث تحدَّث فيها عن السنن الإلهية التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وذكرَ منها: الجزاءَ من جنسِ العمل، مُبيِّنًا في ضوء الكتاب والسنة أن من فعلَ الخيرَ جُوزِي بالخير، ومن أساءَ جُوزِي بالإساءة، ولا يظلمُ ربُّك أحدًا، وكان مما جاء في خطبته: إن الله - سبحانه وتعالى - قد أودعَ في هذه الحياة سُننًا ثابتةً لا تتغيَّرُ ولا تتبدَّلُ، والعاقلُ السعيدُ هو الذي يتعرَّفُ على هذه السُّنن الإلهية ليعملَ بمُقتضاها، ولا يُصادِمُها ولا يُخالِفُها، فيعيشُ في هذه الحياة عيشةَ الكرام المُوفَّقين السُّعداء، وله في الآخرة الأجورُ والنَّعماء، ومن تلكُم السُّنن العظيمة: سُنَّةٌ طالما كان لها الأثرُ الكبيرُ في حياة الناس، وعاقِبة أمورهم ومآلهم، ألا وهي: سُنَّةُ أن (الجزاء من جِنسِ العمل)، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر.
سُنَّة إلهيةٌ كبرى إنها سُنَّةٌ إلهيَّةٌ كُبرى، وقبسٌ من قبَسات عدل الله وحكمته وقُدرته التي لا حدودَ لها، وقاعدةُ الجزاء الربَّاني في هذا الكون القائِم على العدل والميزان الذي لا يعولُ ولا يميلُ، ولا يُحابِي أحدًا، ولو تفكَّر الناسُ جميعًا في ظاهر أمرهم وباطنِه، وما هم عليه؛ لوجدُوا هذه السُّنةَ تتجلَّى لهم في كل شُؤون حياتهم، ولفقُهُوا طرفًا من حكمة الله البالِغة في أقداره وأحكامِه، فالبرُّ لا يبلَى، والإثمُ لا يُنسَى، والديَّانُ لا يموتُ، وكما تدينُ تُدان، وكما تُجازِي تُجازَى.
أليس من العجيب أن يرحمَ الله بغيًّا؛ لأنها رحِمَت حيوانًا كادَ أن يهلِك فروَّت عطشَه؟! أليس من المُدهِش أن يخسِفَ الله بقارون وكنوزِه الأرض، ويُجرجِرَه فيها؛ لأنه طغَى وبغَى، وكادَ أن يفتِنَ الناسَ ويُزلزِلَ إيمانَهم بربِّهم؟!
محور الجزاء إن هذه السُّنة الربَّانيَّة هي محورُ الجزاء بالعدل وبالفضل المُماثِل لعمل العبد ومن جِنسِه ، وهي مُطَّردةٌ شرعًا وقدرًا وزمانًا ومكانًا، دلَّت عليها أكثرُ من مائة آيةٍ في كتاب الله، وتكاثَرَت النصوصُ النبويةُ في تقريرها وترسيخِها في النفوس،
حُسن العاقبة وحُسنُ العاقبةِ، وطِيبُ المآل من الجزاء الحسن؛ فقد ترى الرجلَ في شيبَته يعيشُ حياةً طيبةً هنيئةً رضيَّة؛ وما ذاك إلا لأنه كان لله في شبابه، مُحافِظًا على طاعاتِ ربِّه ورِضاه، فحفِظَه الله في الكِبَر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تُجاهَك»؛ أخرجه الترمذي وغيرُه، وقد يُبتلَى المرءُ بمُصيبةٍ فيرضَى ويُسلِّم، فيهدِي الله قلبَه، ويرضَى عنه، وتكونُ له العاقبةُ الحسنةُ، ويُؤتيهِ الله خيرًا مما أُخِذَ منه، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمُؤمن، والعاقبةُ للتقوى. واعتبِروا -يا عباد الله-، اعتبِروا بأولئك الذين يُظلُّهم الله الكريمُ في ظلِّه، كيف أنهم لما صبَروا لله في هذه الدنيا، وتحمَّلوا المشاقَّ في سبيله؛ كانت عاقبةُ أمرهم: سُرورًا وحُبورًا، وظلالاً وارفةً بارِدةً،
ومن غضَّ بصرَه، وحفِظَ سمعَه ولسانَه عن الحرام؛ جازاه الله وعوَّضَه بأن يُطلِقَ له نورَ بصيرته وقلبِه، ويفتحَ له من الفهم والعلم وسَدادَ القول ما هو أعظمُ لذَّةً وفرحًا من هذه اللذَّات المُحرَّمة، والكلمةُ الطيبةُ من رِضوان الله، يتكلَّمُ بها العبدُ؛ يكتبُ الله له بها رِضوانَه إلى يوم القيامة، ومن برَّ والدَيه، ووصلَ رحِمَه؛ وصلَه الله برحمته وكرمِه.
ومن استغفرَ للمُؤمنين والمُؤمنات؛ كتبَ الله له بكل مُؤمنٍ ومُؤمنةٍ حسنة. ومن سترَ مُسلمًا سترَه الله، ومن يُنفِق يُنفِقِ الله عليه، ومن كان في عَون أخيهِ كان الله في عَونه، وإنما يرحمُ الله من عبادِه الرُّحماء، وذلك كلُّه أثرٌ من آثار هذه السنَّة الربانيَّة؛ فالجزاءُ من جنسِ العمل.
جزاء الأنبياء ولقد جازَى الله -تعالى- خليلَه ونبيَّه إبراهيم - عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام - بأن جعلَه إمامًا وأمةً يُقتدَى به، ونورًا يُستضاءُ بقوله وفعلِه، بعد أن اختبرَه الله بكلماتٍ فأتمَّهنَّ، ووجدَه صابرًا حليمًا أوَّاهًا مُنيبًا. وهذا يُوسف - عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام - جرَت له من الخُطوب والكُروب؛ ما كان سببًا لأن مكَّن الله له في الأرض، وكانت له العاقبةُ الحسنة.
وسيِّدُ الأولين والآخرين نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم ابتُلِي البلاءَ العظيم، وكمَّل لله مقامات العبودية كلَّها، فكمَّله الله وجمَّله، ورفعَ له ذِكرَه في العالمين، وجعلَه إمامَ الخلق كلِّهم، في كل المقامات الشريفة في الدنيا والآخرة.
وزوجتُه الصفيَّةُ الرضيَّةُ خديجةُ -رضي الله عنها-، بشَّرها ال له ببيتٍ من الجنة من قصَبٍ؛ لأنها كانت أسرَع الناس إلى الإيمان برسولِ الله، فحازت قصبَ السبق والشرف، لا صخَبَ فيه ولا نصَبَ؛ لأنها أحسنَت صُحبتَه، وواسَته بنفسِها ومالِها، وقامَت بحقوقِه[ بلا مللٍ ولا كللٍ ولا رفعِ صوتٍ ولا ضجَر. وتتكاثَرُ الشواهدُ والأدلةُ والقصص؛ ليعلَم الناسُ كلُّهم أن الجزاءَ من جنسِ العمل،
من عجائب البيان ومن عجائبِ البيان لهذه السُّنَّة الإلهيَّة: أن من نسِيَ الله نسِيَه الله، فلا يُبالِي به، ومن سمَّع بعمله سمَّع الله به مسامِعَ خلقِه وصغَّره وحقَّره، ومن راءَى يُرائِي الله به، ومن تتبَّع عورات المُسلمين تتبَّع الله عورتَه وفضحَه، ومن زاغَ عن الهُدى أزاغَه الله ومدَّ له من العذابِ مدًّا، ومن أعرضَ عن ذِكرِ الله عاشَ ضنكًا ونكَدًا.
ومن عرَّض المُؤمنين والمُؤمنات للفتنةِ والعذابِ والقتل والتحريقِ؛ صرعَه الله شقيًّا ذليلاً مبغُوضًا، وله في الآخرةِ عذابُ الحريق، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
والذين نافقُوا وأجرَموا، لما سخِروا من الذين آمنوا وكانوا منهم في الدنيا يضحَكون ويتغامَزُون؛
التأمل في العقوبات وحين نتأمَّلُ - يا عباد الله -، العقوبات التي أنزلَها الله بمن عاندَ أمرَه وخالَفَ رُسُلَه، نجِدُ أنها مُناسِبةٌ أيَّما مُناسبَةٍ لذنوبِهم وأعمالهم، كما قصَّ الله علينا هلاكَ قومِ نُوحٍ، وعادٍ، وثَمُود، وأصحابِ الأيكة، وقوم لُوط، وفرعون، وسبأ، وغيرهم، {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا
قال ابنُ عُمر - رضي الله عنهما -: «كان بالمدينة أقوامٌ لهم عيوبٌ، فسكَتُوا عن عيوبِ الناسِ، فأسكَتَ الله الناسَ عن عيوبِهم، فماتُوا ولا عيوبَ لهم، وكان بالمدينة أقوامٌ لا عيوب لهم، فتكلَّموا في عيوبِ الناسِ، فأظهرَ الله عيوبَهم، فما زالُوا يُعرَفُون بها إلى أن ماتُوا»، وقال إبراهيمُ النَّخعيُّ - رحمه الله -: «إني لأرَى الشيءَ مما يُعابُ، فما يمنَعني أن أتكلَّم فيه إلا مخافةَ أن أُبتلَى بمثلِه».
استشعار هذه السُنَّة إن استِشعار سُنَّة الجزاء من جنسِ العمل، واستِحضارها في كل المواقِف والأحداث، يمنَحُ العبدَ اليقينَ بعدل الله وحكمته، وأنه القادرُ على كل شيءٍ، الذي لا تخفَى عليه خافِية، ويجعلُ العبدَ يتوقَّعُ الخيرَ من الله، فيُحسِنُ الظنَّ بربِّه، ويرجُو رحمتَه وكرمَه وحُسن ثوابِه، ويشعُر بالطُّمأنينة والرِّضا؛ لأنه يعلمُ علمَ اليقين أنه سوفَ يُجازَى الجزاءَ الأوفَى، فلا يبأَس ولا ييأَس، والله لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً،
ومن جازاه الله الجزاءَ الحسنَ، فلا يغترَّ بذلك ولا يفخَر؛ بل عليه أن يشكُر الله ويسألَه المزيدَ،
ومن جازاه الله جزاءَ السُّوء، فلا يقنَط من رحمةِ الله وعفوِه، وعليه بالتوبةِ والاستِغفار والبُعد عن مساخِطِ الله وغضبِه، فما نزلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِع إلا بتوبةٍ، وإن قوم يُونس - عليه السلام - لما آمَنوا كشفَ الله عنهم عذابَ الخزيِ في الحياة الدنيا ومتَّعَهم إلى حينٍ.
سُنٍّة عامة إن سُنَّة الجزاء من جنسِ العمل سُنَّةٌ عامَّةٌ على البشريَّة كلِّها، لا تُحابِي أحدًا، ولا تستثنِي أحدًا، وهي تحُلُّ وتنزِلُ بمن يستحقُّها في الوقت المُناسِب في علمِ الله وحِكمته، فقد كان بين دعوةِ مُوسَى - عليه الصلاة والسلام - على فرعون وقومِه: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}
وقد يُمهِلُ الله الظالمين المُعتَدين، ولكنه لا يُهمِلهم، وقد يفرَحون بقتل الأبرياء وسفكِ دمائِهم، ويظنُّون كلَّ الظنِّ أنهم أفلَتُوا من عقابِ الله، فتفجؤُهم سُنَّةُ الله من حيث لم يحتسِبُوا.
تربية للمسلم إن هذه السنَّة الربَّانيَّة تُربِّي المُسلمَ على التسليم المُطلَق لله الذي بهرَت حكمتُه العقولَ، وهي تُؤكِّدُ على أن بنِي آدم كلَّهم لا يُحيطُون به - سبحانه - علمًا، ولا يُدرِكون أسرارَ قضائِه وقدَره وتدبيرِه العجيبِ لأحداثِ الكون، فقد يعترِضُ بعضُ بني آدم ويسخَطون، وقد يشُكُّون حينما يرَون بعضَ أٌقدار الله، وكيف يرفعُ الله أقوامًا ويضعُ آخرين، ويفتحُ أبوابًا ويُغلِقُ أخرى، ويُعطِي ويمنَع، ويبتلِي ويُعافِي، ويُغنِي ويُفقِر، ويُكرِمُ ويُهين، ويُعزُّ ويُذلُّ، وأنَّى لابنِ آدم أن يُدرِك حكمةَ الله وعلمَه؟! فيا ابنَ آدم! إنك إن أسلمتَ قلبَك لله، وسلَّمتَ الأمر، ورضيتَ بما قسمَ الله لك، واشتغلتَ بما فرضَ الله عليك، وتركتَ ما لا يعنِيك؛ أرحتَ قلبَك وسعِدتَّ في حياتِك. وإن تعجَبُوا .. فعجبٌ ما أصابَ الصحابةَ يوم أُحُد، حتى قالوا: {أَنَّى هَذَا} (آل عمران: 165)، فهل سمعتُم أن الله يقول: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان} (الرحمن: 60)؟! (النساء: 123)؟! والناسُ في هولٍ وكربٍ وشمسٍ لاهِبة، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}(الإنسان: 12).{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(الزلزلة: 7، 8).عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج: 10). كان الجزاءُ من جنسِ العمل، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}(المطففين: 34- 36).أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(العنكبوت: 40). لكي يستديمَ هذه النعمة، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7).(يونس: 88)، كان بين هذه الدعوة وبين استِجابةِ الله لها وهلاكِ فرعون وقومه أربعُون سنة، كما ذكرَ ذلك المُفسِّرون، فلا {تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}(إبراهيم: 42)،