على الأغلب سبق ورأيت هذه الصورة المدهشة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وعلى الأغلب- أيضًا- اتسعت عيناك في انبهار وتجمد كوب الشاي في طريقه إلى فمك وكفّت تلك الذبابة عن الأزيز بينما تحلق حولك!
صورة مذهلة بالقمر الصناعي لوطنك العزيز وبتفاصيل حية لم ترها من قبل! يا للروعة!
لكن مع كل هذا الجمال تنشأ مشكلة صغيرة! في حضرة مثل هذا الجمال لا يعمل العقل جيدًا؛ فقط يصفق كما البلهاء ويجامل القلب بإفراز هرمونات السعادة لمزيد من النشوة! والنتيجة: تهانينا، لقد تم خداعك بنجاح!
ما رأيك بالصورة التالية؟
باهتة، غير مثيرة، ولا تلفت الانتباه على الإطلاق؛ أليس كذلك؟
تقول أنها ليست حقيقية حتى، وأنها “جرافيك”؟!
جميل! ماذا لو أخبرتك إذن أن الصورة الأخيرة “الباهتة” هي الحقيقية، وأن الأولى المبهرة الصارخة بالتفاصيل هي الـ “مصطنعة” والـ “جرافيك”! فقط طالع الصورة الأولى بتمعن مرة أخرى. هذه عروس أجلسوها للزينة ووزعوا الطلاء والزينة بسخاء وبلا تحفظ في كل سنتيمتر من وجهها! صحيح أنها صارت عروسًا صبوحًا تبهج العين، لكنها ليست الحقيقية التي قد تلتقطها عينك بينما تسير في الطريق!
أو كما اتضح لاحقًا، فالصورة الأولى التي تم تداولها بكثافة مؤخرًا في أنحاء العالم، خاصة العربي، هي عمل فني رقمي لمصمم الجرافيك الروسي أنطون بالاز Anton Balazh! الآن، هذا هو ما يمكنني أن أفغر فمي له في انبهار، غير مبال بخطر الذبابة التي تحوم في الأرجاء!
بالاز يعشق ويجيد العمل على برامج النمذجة ثلاثية الأيعاد، لذا فكر أنه سيكون من الممتع صنع نموذج واقعي ومبهر لكوكب الأرض بالكامل، وهي فكرة تطورت سريعًا وازدحمت بالتفاصيل حتى صار تنفيذها عسيرًا يستغرق الكثير من الجهد والعناية!
يقول بالاز أنه عكف أعوامًا طويلة بينما يقوم بتعقيد النموذج الرقمي الذي يبنيه وإضافة التفاصيل التي تجعله متميزًا. وللحفاظ على الواقعية وموثوقية العمل، قام بتنزيل عشرات الآلاف من صور الأقمار الصناعية الحقيقية التي تضمها مجلدات ناسا لكوكب الأرض المنظور.
وحصل كذلك على معلومات موثقة عن أعماق المحيطات كي تبدو محيطاته الرقمية واقعية، بالإضافة إلى بيانات مستويات البحار حول العالم لترسيم الحدود البحرية بدقة!
وبالاستعانة بالبيانات والمعلومات التي توفرها ناسا حول طوبوغرافيا وتضاريس الأرض، قام برفع سلاسل الجبال التي تبدو في صور الأقمار الصناعية مسطحة بلا إثارة!
كذلك، حصل من قمر Suomi NPP الذي يدور حول كوكب الأرض على بيانات الإضاءة وتوزيع النور داخل المدن حول العالم! يقول بالاز أن هناك تقنيات مختلفة يستعين بها لـ “تحسين” الصورة، ومنها تكثيف ضوء المدن، رفع وتعلية الجبال والمرتفعات، أو إلقاء ضوء القمر الصناعي على المشهد بالشكل الصحيح.
حدّث أي مصمم جرافيك على برامج ثلاثية الأبعاد عن تصيير صورة بهذه الجودة والتفاصيل والأبعاد، وسيخبرك أنها ستمثل كابوسًا مريعًا لأي جهاز شخصي! فكل صورة هنا تحوي ما بين 20 إلى 30 مليون مضلع polygon لتكوين نموذج ثلاثي الأبعاد لمرتفع أو سطح أرضي واحد! والمضلع لمن لم يعمل من قبل على برامج التصميم يمكن وصفه بأنه مسطح يتكون من عدد من الخطوط Lines التي تربط بين عدد أكبر من النقاط Vertices لرسم أو تحديد منطقة ما! كل نقطة Vertix تستلزم عشرات العمليات الحسابية عند تصييرها، فما بالنا بملايين المضلعات المعقدة؟!
يقول بالاز أن تصيير Rendering صورة واحدة يستغرق عشرات الساعات على حاسب قوي متعدد الأنوية بذاكرة عشوائية تبلغ 32 جيجا رام! هذا عذاب هوميروسي بامتياز في رأيي … للألة بالطبع!