افتتحت صقلية الإسلامية عهدها بالمجاهد أسد بن الفرات واليًا وقاضيًا، ولكن هذا الجمع بين الوظيفتين لم يدم طويلا، فما كاد المسلمون يحتلون بلرم، ويتخذونها عاصمة لهم حتى أصبح الوالي والقاضي شخصيتين متمايزتين. ويحدثنا الرشاطي أن زيادة الله بن إبراهيم الأغلبي الذي فتحت صقلية في زمنه ولى على صقلية ابن أخيه أبا الأغلب قطعية له، فكانت له بجميع ما فيها ! وركب إليها من سوسة في مراكب كثيرة ومعه خيل ورجال أتوا من نواحي أفريقية، لما يعلمون من كرمه وجوده. الوالي في صقلية
شيوخ الجماعة في بلرم
ونستطيع أن نتصور من حال زيادة الله نفسه أن والي صقلية ربما قلده في اتخاذ مجلس استشاري من حوله، وهو الذي كان يسمى في القيروان "الجماعة"، ولذلك نسمع في تاريخ صقلية دائمًا عن شيوخ المدينة بلرم (بالرمو Palermo عاصمة صقلية)، ولا نظن أن هؤلاء كانوا مجرد زعماء وإنما المعتقد أنهم كانوا يزاولون بعض السلطان إلى جانب الوالي. الوالي في عهد الأغالبة
وكان لا بد من وجود هذه الصبغة الإدارية في الجماعة لأن والي صقلية في أيام الأغالبة لم يكن يزيد على قائد عارف بفنون القتال، مستعد للغزو والجهاد، وكثيرًا ما كان الجيش ينتخب الوالي دون أن ينتظر مجيء وال جديد من أفريقية. على أنه لا بد أن نلحظ أنه ليس من الواضح لدينا إن كان الذي يولي الوالي هو الجيش أو شيوخ البلد أو الفريقان معًا. من صفات والي صقلية
ولا نسمع عن وال في العهد الأغلبي لم يكن يخرج في الغزو إلا عن الأمير محمد بن عبد الله بن الأغلب فإنه كان مقيما ببلرم لم يخرج منها، وإنما كان يخرج الجيوش والسرايا فتفتح وتغنم.
وتحدثنا المصادر أن العباس بن الفضل لما وقع عليه الاختيار أخذ يبث السرايا وهو مقيم في بلرم، فلما جاءه التصديق على ولايته من أفريقية قاد الجيش بنفسه. وربما أشار هذا إلى أن قيادة الجيش كانت هي الصفة الأولى التي تفترض حكومة القيروان توفرها في الوالي.
وكان أكثر الولاة في الدولة الأغلبية من أسرة بني الأغلب أو من أقربائهم، وليس بين أيدينا مادة تصور شخصيات الولاة أو تميزهم سوى كثرة الحرص على الجهاد والغزو، إلا ما كان من أمر أبي مضر زيادة الله فإنه كان في أثناء ولايته على صقلية عاكفًا على اللهو وشرب الخمر، ولم يرض هذا أباه فعزله. وقد رأى الراهب ثيودوسيوس والي بلرم وهو يومئذ جعفر بن محمد ووصفه بأنه متكبر متجبر، واستدل على ذلك من جلوسه وراء حجاب، ولم يكن الوالي يستند إلى حرس خاص، ولذلك نسمع عن وثوب أهل صقلية به وعزله أو إخراجه من بينهم. وكان الوالي يسكن القصر في بلرم، ويودع فيه المال والسلاح والكساء، ومن قصره ذاك كان يشرف على نواحي المدينة، وكان له أن يعين من قبله ولاة على المدن، يخضعون له مباشرة.
الوالي في عهد ال***يين
وظل الحال كذلك في أيام ال***يين إلا أن الاستقرار وخضوع أكثر أجزاء الجزيرة للمسلمين مكن الوالي من توسيع سلطانه الإداري والاهتمام به، ومنذ أن بنى خليل بن إسحاق الخالصة أصبحت هي مركز الوالي بدلا من القصر القديم.
وأصبح كل وال بعد ابن قرهب يتمتع بحماية حرس غريب عن الجزيرة، فلم يعد في إمكان أهل صقلية أن يطردوه بسرعة، إذ صار في إمكانه أن يتحصن منهم ويقاتلهم في مدينتهم. ومحك الخبرة عنده أن يتمكن من إقرار التوازن بين العناصر فلا يتظاهر بتفضيل عنصر على آخر وأن لا يمس المسائل المالية بتغيير يضر بصالح الأهالي، إلا أن بعض الولاة كان يطلق يد أعوانه في صقلية فيستبيحون لأنفسهم الغلو في تقاضي الأموال. صقلية في العهد العبيدي الفاطمي
وارتبطت صقلية في أيام ال***يين بالدولة العبيدية الفاطمية في إفريقية وأصبح يدعى على منابرها للخليفة العبيدي الفاطمي [1] وبذلك أصبح الوالي الصقلي ممثلا للخليفة ثم انتقل العبيديون الفاطميون إلى مصر، ولا شك أنه كان في جيش جوهر الصقلي كثير من الصقليين، فالعناصر الصقلية في جيش العبيديين وأساطيلهم أقدم من ذلك، ومنذ سنة 307هـ نجد أسرى صقليين في مصر، وقد منَّ عليهم حاكمها بالإطلاق بعد تغلبه على جيش أخرجه صاحب أفريقية لقتاله [2]. وبارتباط صقلية بمصر أصبحت تتأثر بها في أساليب الحياة، ويهاجر إليها طلاب العلم وتقوم فيها الأنظمة الحكومية على غرار ما هي في مصر. التدخل العبيدي الفاطمي في صقلية
وكان الوالي في صقلية يدين بنوع من التبعية للقاهرة، ويستمد منها القوة الإدارية والحربية، ولا بد أن يكون في يده سجل بولايته من الخليفة، وأن تصله منه الخلع والألقاب والتشريفات، وأصبحنا نسمع في صقلية ألقابًا مثل ثقة الدولة وتاج الدولة وتأييد الدولة وصمصام الدولة، ولعل هذه الألقاب استحدثت منذ أيام الخليفة الحاكم بأمر الله أو قبله بقليل، ولم تنفك مصر عن هذه المراسيم بتقليد الولاية حتى كانت آخر خلع وصلت من مصر للصمصام [3]. ولم يكن الخليفة العبيدي الفاطمي يكتفي بهذا النوع من التدخل، أو يقنع بهذا القدر من العلاقة بينه وبين الوالي في صقلية، بل كثيرًا ما كان يتدخل في الشؤون الداخلية معتبرًا صقلية جزءًا من مملكته، له حق التصرف فيه، فكان يعقد الصلح مع الروم على شروط نافذة في صقلية، دون أن يأخذ رأى واليها، ولم يكن للوالي إلا أن ينفذ ما يراه سيده مناسبًا وإن كره ذلك وكرهه الناس. عقد المعز لدين الله العبيدي صلحًا مع الروم سنة 358هـ، على أن يخلى المسلمون رمطة وطبرمين، وأرسل إلى الأمير أحمد في صقلية بتنفيذ ذلك فصدع بالأمر على غير رغبة من المسلمين، وقد يقال إن هذا كان يحدث قبل الإذن للوالي بالاستقلال، وأن استقلال والى صقلية لم يتم إلا بعد هذه السنة في عهد الأمير أبي القاسم. ولكن حتى بعد إحراز هذا السلطان لم يكن الحاكم يسلم من تدخل الخليفة تدخلا قد يفقده أجزاء من ولايته، ففي ولاية جعفر بن محمد ال***ي (373هـ - 375هـ) كتب إليه العزيز أن يدفع إلى الراهب أخي جاريته السيدة العزيزة قلاعًا من بلاد صقلية فيها بنقش وطبرمين وومطة، وأن يدفع إليه كل سبى عنده قديم وحادث، ولولا مماطلة جعفر وتلويحه لسيده بالعصيان لاقتطعت هذه الأجزاء من ولايته وأصبح لصقلية واليان. وظلت صقلية إلى عهد متأخر ملكًا لسلطان مصر، على حد تعبير ناصر خسرو، ونكاد نجزم بأنها كانت تدفع مبلغًا معينًا من المال سنويًا للدولة الفاطمية، وهذا واضح من قول ناصر خسرو: "وتغادرها كل سنة سفينة تحمل المال إلى مصر" [4]. وفي مرآة الزمان أن السبب في استقدام النورمان إلى صقلية عجز وال يسمى ابن البعباع عن دفع المبلغ المطلوب لصاحب مصر مما أدى بالوالي إلى أن يستنجد بالفرنج [5]، وهذا الخبر المتأخر نسبيًا ليس له في المصادر الأخرى وجود، وربما لم يكن فيه من الصحة إلا دلالته على وجود علاقة بين صقلية ومصر، تفرض على الجزيرة أداء مبلغ من المال كل سنة. الدواوين في صقلية
أما الوظائف الحكومية الأخرى فكان ينهض بها أصحاب الدواوين والموظفون فيها وقد عدت المصادر من الدواوين:
1 - ديوان الخمس.
2 - ديوان الصناعة.
3 - ديوان الخاصة.
4 - ديوان الإنشاء.
ديوان الخمس
أما ديوان الخمس فإن متوليه كان يسمى "صاحب الخمس"، وشخصيته ذات شأن في تاريخ صقلية وأدبها، فهو يتولى أمر البلد حين لا يكون لها وال، وهو بحكم مركزه مقصد الأدباء والشعراء. وقد ذكرت المصادر أسماء بعض ممن تولوا هذا الديوان منهم عمران الذي قتل في بلرم، وخليل الذي ضبط المدينة حين خلت من واليها سنة 398هـ. ومنهم ابن الرقباني وابن الشامي صاحب الخمس أيام صمصام الدولة. أما الخمس نفسه فهو ضريبة معينة عدها ابن حوقل من جملة ما تحصله خزينة الدولة بصقلية ولكنه لم يوضحها، ويظهر أنه من الصعب تعيينها بدقة لأنها تضمنت غير دلالة واحدة. ويرى الأستاذ أماري أنها خمس الغنيمة والأرض التي أخذت عنوة، ويقول دوزي: صاحب الخمس هو متولى الأرض التي أصبحت ملكًا للدولة في مدن افتتحت عنوة.
ويعرف المقريزي الخمس بأنه الضرائب المختصة بالثغور أي هو ما يؤدي في مصر مثلا من تجار الروم الواردين في البحر عما معهم من البضائع، بمقتضى ما صولحوا عليه، وربما بلغ ما يستخرج منهم ما قيمته مائة دينار ومائتان وخمسة وثلاثون دينارًا وربما انحط عن عشرين دينارًا، ويسمى ذلك خمسًا ومثل هذا المعنى الأخير محتمل وجوده في صقلية لموقعها البحري، لولا أن ابن حوقل يميز بين ثلاثة أنواع من الضرائب، هي: الخمس ومال البحر وقبالة الصيود. ديوان الصناعة وديوان الخاصة
وأما ديوان الصناعة فليس هناك شيء واضح عنه، وكل ما نعرفه هو ما ذكره ابن سعيد في ترجمة أبي الحسن علي بن المعلم إذ قال إنه صاحب ديوان الصناعة، وأما ديوان الخاصة فيذكره المقريزي والقلقشندي باسم ديوان الخاص. وفي مختصر الدرة أن ميمون بن أبي بكر الوراق الشاعر مدح على ابن القطاع المتقلد ديوان الخاصة، وربما كان هذا الديوان خاصًا بالإشراف على إقطاعات الوالي وشئون قصره، وفي أيام المقريزي كان يشمل دار الضرب.
ديوان الإنشاء
وأحفل هذه الدواوين بالصبغة الأدبية ديوان الإنشاء إذ لم يكن يتولاه إلا أجل الكتَّاب بلاغة، وعلاقته بالوالي متينة، وليس يحجب عنه أبدا، ومن أصحابه في صقلية ابن الطوبي وابن الودانى وغيرهما من مشاهير كتَّابها. ديوان الطراز وديوان التحقيق
ونجد في العهد النورماني ديوانين آخرين هما ديوان الطراز وديوان التحقيق، والأرجح أن هذين كانا موجودين في العصر العربي وربما كان ديوان الطراز هو ديوان الصناعة نفسه، إلا إن فرضنا أن هناك خطأً نسخيًا وأن ديوان الصناعة هو في حقيقة الأمر دار الصناعة، وكان عمل ديوان التحقيق المقابلة على الدواوين جميعًا، وله في مصر العبيدية الفاطمية وجود، ومن ثم لا يستبعد وجوده في صقلية الإسلامية [6]. [1] هذا هو الشيء الطبيعي، والنص صريح في مسالك الأبصار، ج3 المجلد الأول الورقة 128 بأنه خطب لهم بجزيرة صقلية.
[2] الكندي: الولاة والقضاة، نشر جست، ص276.
[3] أول من تقرن المصادر اسمه باللقب هو الأمير يوسف الملقب بثقة الدولة (379هـ - 388هـ).
- انظر: القفطي: أنباه الرواة، 1/582، وقد وصلت الصمصام ألقاب كثيرة.
[4] ناصر خسرو، سفر نامه، ترجمة الدكتور الخشاب، طبعة لجنة التأليف 1945م، ص45.
[5] سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، المكتبة، ص336.
[6] المقريزي: المواعظ والاعتبار، 2/ 242. القلقشندي: صبح الأعشى، 3/ 493.
hg,ghm ,hg],h,dk td wrgdm hgYsghldm hg,ghm wrgdm