03-09-2016, 12:12 PM
|
|
|
|
|
التأثير العراقي في الحضارة الأندلسية
من المعروف أن الحضارة الأندلسية لم تنشأ فجأة، بل مرت في أدوار مختلفة، وخضعت لمؤثرات حضارية مشرقية تربطها بالوطن الأم باعتبارها جزءاً منه، كما خضعت أيضاً لمؤثرات حضارية محلية بحكم البيئة التي نشأت فيها.
وإذا أخذنا بالتقسيم السياسي لعصر الإمارة (138 - 316هـ)، وهو على الترتيب الآتي:
1- عصر التأسيس (138 - 172هـ /756 - 788 م)، أي عصر عبد الرحمن الداخل.
2- عصر التوطيد (172 - 206هـ / 788 - 822م) أي عصر هشام الأول (172 - 180هـ)، وعصر الحكم بن هشام (180 - 206هـ).
3- عصر الاستقرار والازدهار (206 - 273هـ / 822 - 886 م، وهو عصر عبد الرحمن الأوسط (206 - 238هـ) وعصر ابنه الأمير محمد (238 - 273هـ).
4- عصر الحرب الأهلية (273 - 300هـ / 886 - 912 م)، وهو عصر الأمير المنذر بن محمد (273 - 275هـ) وعصر الأمير عبد الله بن محمد (275 - 300هـ).
فإننا نرى أن الملامح الشامية للحضارة العربية دخلت الأندلس في عصر الولاة وعصر التأسيس من عصر الإمارة، وأن الملامح الحجازية دخلت في عصر التوطيد من عصر الإمارة، كما أن الملامح العراقية دخلت في عصر الاستقرار والازدهار من عصر الإمارة وما تلاه من عصور.
التأثير العراقي في الأندلس
في فترة الاستقرار والازدهار من عصر الإمارة في الأندلس (206هـ - 273هـ) هبت رياح التأثير العراقي الذي ازدهر في هذه الفترة لعوامل كثيرة على الأندلس.
وفي الوقت نفسه توفرت في الأندلس عوامل جذب لهذه الحضارة، منها: رغبة الأمير عبد الرحمن الأوسط (207هـ - 238هـ) في ترك سياسة الانعزال عن العراق التي سار عليها آباؤه، وأن يساير حركة الازدهار الحضاري التي اشتهرت بها بغداد، ففتح أبواب الأندلس أمام التيارات العراقية.
بالإضافة إلى بروز مظاهر الترف والرفاه في المجتمع الأندلسي بسبب الازدهار الاقتصادي الأندلسي، مع الأخذ بنظر الاعتبار إقبال أهل الأندلس على الحياة الفكرية بسبب الاستقرار السياسي وما تبعه من نشاط اقتصادي [1].
ويأتي في مقدمة من اهتموا بالحركة العلمية الأمير عبد الرحمن الأوسط الذي كان عالماً بالشريعة والفلسفة، وقد شبه بالمأمون العباسي في طلبه للكتب الفلسفية [2].
وكذلك ابنه الأمير محمد الذي أنشأ نواة مكتبة القصر، كما أنه أقطع أحد العلماء الوافدين من المشرق إقطاعاً، وعنه روى الحديث [3]. وقد ساعد الناس في مسعاهم هذا حصول تطورات ملائمة في عهدهم، منها انتقال صناعة الورق بعد انتشارها في المشرق إلى الأندلس، وإقامة مراكز لصناعته في مدينة طليطلة وشاطبة [4].
عوامل انتقال مظاهر الحضارة العراقية إلى الأندلس
وهناك عوامل عديدة ساعدت على انتقال مظاهر الحضارة العراقية إلى الأندلس في هذه الفترة وهي:
1- الوفود
تذكر لنا بعض الروايات أن الأمير الحكم بن هشام أو الأمير عبد الرحمن الأوسط أرسل وفداً إلى العراق برئاسة العالم عباس بن ناصح لدراسة الآثار العلمية المنقولة إلى العرب عن اليونان واستنساخها له، وبعد رجوع الوفد حمل معه كتاب الحساب الهندي المعروف عند العرب باسم السند هند [5].
وبذلك دخلت الأرقام الهندية الأندلس، ومنها انتقلت إلى أوروبا، ومعنى هذا أن الوفد الأندلسي عرف هذا الكتاب واطلع عليه في العراق؛ لأن العرب عرفوا في العصر العباسي الأول كتاب السد هانتا في الرياضيات من الهنود، وقد أمر الخليفة المنصور (136 - 158هـ) بترجمته إلى العربية، فترجمه إبراهيم بن حبيب الفرازي، وعرف هذا الكتاب باسم السند هند، وألف الفرازي على غراره كتاباً عرف باسم السند هند الكبير.
وفي عصر المأمون (198 - 218هـ) طلب من العالم محمد بن موسى الخوارزمي تصحيح هذا الكتاب، ويذكر الخوارزمي شكلين للأرقام الهندية كان يكتبهما العرب، بقي أحدهما المعروف بالأرقام الهندية، وهو الذي ساد في مشرق العالم الإسلامي، بينما اندثر الشكل الآخر المعروف بالأرقام الغبارية الذي ساد في مغرب العالم الإسلامي، ومنها انتقل إلى أوروبا، وهو أصل الأرقام العربية الآن [6].
2- الرحلة في طلب العلم
قام العديد من طلاب العلم الأندلسيين بالرحلة إلى العراق للتزود بالعلوم من منابعها، وقد أمضى بعضهم سنوات طويلة تجاوزت العشرين سنة أحياناً من أجل هذه المهمة، أمثال محمد بن عبد السلام الخشني [7]، وأنفق الكثيرون القسم الأكبر من ثرواتهم في شراء الكتب التي أدخلوا منها الكثير إلى الأندلس، بالإضافة إلى أن غيرهم حملوا العلم رواية في الصدور [8].
ومن نماذج هؤلاء العلماء يحيى بن الحكم الغزال الذي رحل إلى بغداد ودرس الشعر العربي في العراق هناك وقلَّد أبا نواس في شعره [9]. وكذلك عبد الله بن محمد بن قاسم الذي رحل إلى العراق ودرس فيه المذهب الظاهري ونقل أصوله إلى الأندلس، وعالم الحديث المشهور محمد بن وضاح، رحل إلى المشرق ودرس على أيدي كبار علماء الحديث ومن أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل [10].
كذلك اشتهر عبد الله بن مسرة بن نجيح بالفلسفة وعلم الكلام وقام برحلته المشرقية إلى العراق ونزل البصرة في أواخر عصر الإمارة مع أخيه. وقد وُصف عبد الله هذا بكونه أشقر شديد الحمرة مما جعل أحد شيوخه في البصرة يحذره مازحاً "إياك أن يبيعك أهل البصرة يا صقلبي"، ثم رجع إلى الأندلس يبشر بهذه العلوم التي درسها في العراق [11]. وقد ازدهرت مدرسة ابن مسرة الفلسفية في عصر الخلافة.
3- دور التجار
فتحت أبواب الأندلس أمام التجار المشارقة، وبخاصة في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، فبجانب نقل التجار للسلع والبضائع إلى الأندلس، نقلوا معهم بعض الكتب العلمية وباعوها في أسواق الأندلس، حيث اشتراها علماء الأندلس واستفادوا منها في تنمية حركتهم العلمية، وقد كان في مقدمة هؤلاء التجار محمد بن موسى الرازي (توفي عام 273هـ) وهو جد أسرة الرازي التي اشتهرت بكتابة التاريخ في عصر الخلافة [12].
وكذلك دخل كتاب العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي إلى الأندلس على يد تاجر أهداه إلى الأمير عبد الرحمن الأوسط، وبدا هذا الكتاب عسير الفهم على أهل البلاط، وبعد أن اطلع عليه العالم عباس بن فرناس فسره وسهل فهمه لأهل الأندلس [13].
4- هجرة العلماء إلى الأندلس
نتيجة الاضطراب السياسي في المشرق، هاجر بعض العلماء إلى الأندلس، فلقوا الترحاب والرعاية في ربوعها، فكان الأمر كما يقول أحمد أمين: "علماء يضيق بهم الشرق من الفاقة فيرحلون إلى الغرب، وعلماء من الغرب يعوزهم العلم فيرحلون إلى الشرق"[14].
ومن العلماء الذين رحلوا من المشرق إلى الأندلس في هذه الفترة، محمد بن موسى الرازي وهو من مدينة الري في إيران، ورأس عائلة المؤرخين المشاهير في عصر الخلافة (أحمد بن محمد وابنه عيسى بن أحمد). وكان محمد بن موسى الرازي تاجراً مشرقياً اتصل بالأمير محمد وعمل لديه في التجسس على أوضاع المشرق، وهو الذي ألّف كتاب الرايات في التاريخ [15].
وفي عصر الازدهار تقدمت العلوم الطبية في الأندلس، وقد ساهم في تقدمها بعض الأطباء المشارقة الذين رحلوا إلى الأندلس، فعلموا أهلها وما وصل إليه أهل العراق في الطب، ويأتي في مقدمتهم إسحاق بن عمران العراقي الأصل الذي رحل إلى الأندلس [16].
وإذا كان رائد الحركة الطبية في الأندلس في هذا العصر أحمد بن إياس (حمدين بن أبا) الذي ينسب إليه يسون حمدين (شراب) وهو يتألف من مائة صنف من الأعشاب، فقد كان أستاذه طبيباً عراقياً من حران هاجر إلى الأندلس في فترة الازدهار، وهذا الطبيب المشرقي هو الذي أدخل للأندلس معجوناً لأوجاع الجوف، كان يبيع السقية منه بخمسين ديناراً، وكان حمدين أحد خمسة أطباء أخذوا العلم منه [17].
وأدت هذه العوامل إلى انتشار بعض العلوم التي تعتبر عراقية النشأة في الأندلس، وقد شهدت فترة الازدهار من عصر الإمارة دخول النتاج العربي العراقي من علوم اللغة والنحو، فنرى عبد الرحمن بن موسى الهواري يدرك الأصمعي في العراق ويأخذ منه علم النحو مباشرة، ولكنه لم يكتف بذلك بل سلك مسلك علماء البصرة بأن داخل الأعراب وتردد في بواديها وحفظ الكثير [18].
وكذلك محمد بن عبد السلام الخشني الذي قضى في العراق خمسة وعشرين عاماً، فأخذ علم اللغة والنحو والشعر الجاهلي من شيوخ يروونها عن طبقة المشاهير في هذا الباب كالأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى وسيبويه، ومن أشهر شيوخه سهل بن محمد السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي [19].
كذلك قام جودي بن عثمان النحوي (توفي عام 198هـ) بلقاء الكسائي والفراء وأبي جعفر الرؤاسي أثناء رحلته للمشرق، وهو أول من أدخل للأندلس كتاب الكسائي [20].
الموقف الأندلسي من التأثير العراقي الحضاري
ساهم التأثير الحضاري الشرقي في تطوير حضارة العرب في الأندلس، ابتداءً من فترة الازدهار في عصر الإمارة، وما تلاها من عصور، إلا أن هذا التأثير لقي في البداية معارضة شديدة من بعض العلماء ورجال البلاط ضد علماء الأندلس الذين تأثروا بالحضارة العراقية أمثال العالم والأديب المعروف عباس بن فرناس الذي لقي الأمرين من جراء ذلك، ولم يخفف عن هؤلاء العذاب إلا رعاية الأمير عبد الرحمن الأوسط لهم [21].
كما أن التطور الحضاري في الأندلس خلال هذه الفترة زاد وكبر من حجم ظاهرة الاستعراب بالأندلس، أي إقبال الإسبان على تعلم اللغة العربية وآدابها، وتقليد العرب في عاداتهم الاجتماعية، وإزاء هذا الأمر -الذي كان للتيار الفكري العراقي تأثير واضح في كل هذه المتغيرات- كان لبعض رجال الدين الأسبان المتعصبين موقف معادٍ لهذا التيار.
وإذا صحت ظاهرة الاستشهاد (الانتحار الديني) في قرطبة (235 - 244هـ/ 850 - 859م)، ومحورها الطعن بالإسلام ومبادئه وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم علناً في المساجد والساحات العامة أولاً، ومحاولة إعادة بعض من أسلم حديثاً من الأسبان إلى دينه القديم ثانياً، والتي ذكرتها المراجع الأوروبية، فنحن نميل إلى أن هذه الحملة التي قادها الغُلاة تعود إلى ظاهرة التطور الحضاري الأندلسي في هذا العصر بسبب التأثيرات الحضارية المشرقية [22].
[1] خليل إبراهيم السامرائي: أثر العراق الحضاري على الأندلس، مجلة المؤرخ العربي، العدد 2، ص9 وما بعدها.- السيد عبد العزيز سالم: قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس، بيروت: 1971 - 1972م، ج2، ص161.
[2] المراكشي: المعجب في تلخيصأخبار المغرب، تحقيق: محمد سعيد العربان، طبعة أمستردام 1968م، ص48. السيوطي: تاريخ الخلفاء، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: 1964م، ص522.
[3] ابن الآبار: التكملة لكتاب الصلة، نشر وتصحيح: عزت العطار الحسيني، القاهرة: 1956م؛ ج1، ص8.
[4] أحمد بدر: دراسات في تاريخ الأندلس وحضارتها، دمشق، 1972م، ج1، ص176.
[5] ابن سعيد: المغرب في حلى المغرب، تحقيق: شوقي ضيف، القاهرة، 1964م، ج1، ص45. بروفنسال، حضارة العرب في الأندلس، ترجمة ذوقان قرقوط، (بيروت: لا تاريخ للطبع)،ص45. السامرائي، دراسات في تاريخ الفكر العربي، الموصل 1983م، ص341. سالم: قرطبة، ج2، ص161.
[6] هونكة: شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون وآخر، بيروت: 1969م، ص84. أحمد نصيف الجنابي، الرياضيات عند العرب، الموسوعة الصغيرة العدد 64، بغداد: 1980م، ص35 - 36. عبد المنعم ماجد: تاريخ الحضارة الإسلامية، ص223.
[7] الحميدي: جذوة المقتبس، القاهرة: 1966م، ص68 - (رقم 100).
[8] أحمد أمين: ظهر الإسلام، القاهرة 1962م، ج3 ص23.
[9] البنداق، يحيى بن الحكم الغزال، بيروت: 1979م، ص57 - 58، ص82.
[10] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، القاهرة، 1966م، ج1، ص219 (رقم 655)، ج2، ص15 (رقم 1136).
[11] صاعد الطليطلي، طبقات الأمم، نشر لويس اليسوعي، بيروت: 1912م، ص28 – 29. ابن الفرضي: المصدر السابق، ج1، ص217 (رقم 652).
[12] العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، الإسكندرية 1968م، ص34. أحمد بدر: المرجع السابق، ج1، ص177، ص186.
[13] أحمد بدر: المرجع السابق، ج1، ص184.
[14] أحمد أمين: ظهر الإسلام، ج3، ص233.
[15] الحميدي: المصدر السابق، ج3، ص104 (رقم: 175). لطفي عبد البديع، الإسلام في إسبانيا، القاهرة، 1958م، ص68.
[16] أحمد أمين: المرجع السابق، ج3، ص233.
[17] ابن جلجل، طبقات الأطباء، تحقيق: فؤاد السيد، القاهرة: 1955م، ص93 – 94. ابن الآبار: الحلة السيراء، ج1، ص114 (حاشية 1). سالم: قرطبة، ج2، ص211.
[18] ابن الفرضي: المصدر السابق، ج1، ص257 - 258 (رقم 778).
[19] الحميدي: المصدر السابق، ص68 (رقم 100). ياقوت الحموي: معجم الأدباء، طبع دار المأمون 1936م والعام التالي، ج11، ص113 - ج12، ص44.
[20] الزبيدي: طبقات النحويين واللغويين، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: 1954م، ص256. عبد البديع: المرجع السابق، ص73.
[21] محمد صالح البنداق: المرجع السابق، ص37. العبادي: المرجع السابق، ص364. عبد البديع: المرجع السابق، ص56 - 57.
[22] ينظر، بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: حسين مؤنس، القاهرة: 1955م، ص485. عبد الرحمن الحجي، أندلسيات، المجموعة الثانية، بيروت، 1969م، ج2، ص27. لين بول: العرب في إسبانيا، وبعدها. إبراهيم بيضون: الدولة العربية في إسبانيا، بيروت، 1978م، ص224 – 245. السامرائي: أثر العراق الحضاري، ص22.
hgjHedv hguvhrd td hgpqhvm hgHk]gsdm hgjHedv hgpqhvm
"الاخ خيــاط"
عبارات الشكر لن توفيكم حقكم
ولو جمعت حروف الابجديات كلها
لكم سعادة تغمركم
إذا كان أجمل مافي الورد الرحيق ..
فإن أجــمل مافي الدنيـــا "الصديق"
ملاك الورد- اوراق الورد
عسى ربي يحميكم ويسعدكم
احبكم في الله
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 02:19 PM
|