لا أعرف من أين أبدأ موضوعي، ولكني ترددت كثيرًا في كتابة هذه الاستشارة خوفًا من بشر لا يضرون ولا ينفعون، وأعلم أن هذه وساوس من الشيطان.
أنا شاب في بلد أجنبي، طالب في مجال الطيران، يوجد مسلمون كثر في هذا البلد، وهناك حرية كاملة في ممارسة الدين، ولكني أسمع بعض الأحيان من الناس كلاما يخيف، وبالأخص أني أعمل في هذا المجال الحساس، كلامًا يخيف عن الذهاب للمسجد كثيرًا، خاصة وأني إذا أصبحت ملتزمًا قد يضرني هذا الشيء، أصبحت أخاف أن أذهب إلى صلاة الجماعة، وأيضًا صلاة الجمعة، وإن ذهبت إلى المسجد لا أكلم أحدًا، وأتعبني وآلمني هذا الشيء جدًا، والله أشكوا لكم حزني وألمي بعد الله.
أشعر بأني إذا خفت البشر قد أغضب الله تعالى؛ لأنه الوحيد الذي يجب أن أخشاه، ولا أخشى شيئًا سواه.
أنا مؤخرًا هداني الله وتبت إليه، وأسأل نفسي أحيانًا لماذا هداني الله في هذا البلد مع انتشار الفساد، ولم يهديني في بلدي؟! لم أكن لأخاف الذهاب للمسجد حينها! وأبكي على كل لحظة عصيت بها رب العباد الذي يستحق الشكر والطاعة، ورحمته لا توصف، وأطمع أن يغفر لي ويرحمني ويرضى عني.
أنصحوني وأرشدوني -جزاكم الله خيرًا-.
الاجابة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
يسرنا أن نرحب بك في موقعك إسلام ويب، فأهلاً وسهلاً ومرحبًا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأل الله أن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يحفظك بما يحفظ به عباده الصالحين، وأن يوفقك في دراستك، وأن يُعينك على ذكره وشُكره وحُسن عبادته، وأن يمُنَّ عليك بصحبةٍ صالحةٍ طيبةٍ مباركةٍ تكون عونًا لك على طاعته ورضاه.
وبخصوص ما ورد برسالتك -أخي الكريم الفاضل-: أنت تعلم أن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، والإيمان بالقدر أن تعلم أن الخير والشر كله من الله تبارك وتعالى، وأن تعلم أن الله قدَّر المقادير وقسَّم الأرزاق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأن هذه عقيدة ينبغي أن يموت عليها المسلم.
ولذلك بُعدك عن إخوانك في المسجد خوفًا على مستقبلك: أرى أن هذا الأمر محل نظر؛ لأنه يتعارض مع عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، ما دام الناس فيما يبدون أمامك من العاديين الذين يحافظون على الصلوات في المسجد جماعة، ثم ليس لديهم كلام خاص ضد أحد، أو ينتمون إلى أحزاب معينة يتعصبون لها - وغير ذلك –؛ فما المانع أن تأنس بإخوانك في المسجد، وأن تحاول أن تقضي معهم أوقات فراغك؟ لأنك أولاً وقبل كل شيء ينبغي عليك أن تعلم أنه لا يقع في ملك الله إلا ما أراد الله، وأن ما قدَّره الله تبارك وتعالى فهو كائن، ومهما كانت حساسية التخصص الذي أنت فيه لا يمنعك من أن تتواصل مع إخوانك المسلمين الذين يُقوّونك على الحق، ويدعمونك في الطاعة، والذين يفتقدونك إذا تعرضت لشيء، ويؤازرونك أيضًا إذا ألمَّتْ بك ملمَّة.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- أوصانا قائلاً: (من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد).
إذًا عليك – أخِي الكريم –: أن تتواصل مع إخوانك، مع جماعة المسجد، ما دمت لم تر منهم إلا خيرًا، ولم تسمع عنهم إلا خيرًا، حتى تستطيع أن تتقوَّى على أداء رسالتك، وحتى تعيش في جوِّ إيماني طيب، من خلاله تستطيع أن تخدم دينك، وأن تحافظ على ثباتك وطاعتك والتزامك أيضًا.
المهم – كما ذكرت لك – ألا تكون هناك أفكار متطرفة، أو منحرفة، أو تأويلات فاسدة للنصوص الشرعية – أو غير ذلك –، فما دام الناس هم أهل الصلاح، يُصلون في المسجد، وعندهم بعض الأنشطة الدعوية، أو صيام الاثنين والخميس، أو رحلات ليس فيها كلام ضد أحد، أو أحزاب، أو تأليبٍ على أحد، أو إثارة للفتنة، أرى أن الأمر سيكون عاديًا جدًّا، وليس هناك ما يُخوّف الإنسان.
ثانيًا: أنت قد لا تذهب إلى أحد، وقد لا تجلس مع أحد، ويتم أيضًا إلحاق الضرر بك بقدرٍ آخر لا يخطر ببالك أبدًا، فأنا أرى ألا يمنعك هذا الهاجس، ولا هذا الخوف من التواصل مع إخوانك، ما دمت لم تر منهم إلا خيرًا، ولم تسمع عنهم إلا خيرًا، وما دام الكلام عاديًا، وما دام الكلام أمام الناس جميعًا، ولكن حاول ألا تتكلم في قضايا أكبر من حجمك، وإذا وجدت الكلام في كلام الدنيا، وفي نقد العلماء، ونقد الرجال، ونقد الأنظمة والحكومات فحاول أن تُغلق هذا الباب، لا تقل لهم: (هذا كلام سياسي)، بل قل: (هذا كلام لا يُسمن ولا يُغني من جوع، ولا يُفيد في شيء، ونحن نتصدق بحسناتنا على غيرنا، فالأولى لنا أن نتكلم في شيء مفيد نافع).
أنت تستطيع أن تكون قائدًا للمجموعة كلها، وأن تعلمهم أدب الحوار وأدب الكلام وأدب النقاش، وأن تُقدِّم لهم حقيقة هدية رائعة، عندما تعلمهم أن نتكلم في شيء مفيد الذي يعود علينا بالخير والذي يسرنا في القيامة أن نراه، أما نقد العلماء ونقد الدعاة والطعن فيهم ونقد الأنظمة والكلام في ولاة الأمور، فهذه بضاعة مَن لا بضاعة له، أما أصحاب الحق يتكلمون حول الجليل جل جلاله، وحول الدين العظيم الذي أكرمهم الله به، وحول النبي الكريم الذي جعله الله رحمة للعالمين، وحول الانشغال بهموم الأمة، والتفكير في مستقبل هذا الدين للعالم، وكيف نضع خطة لإخراج هؤلاء المساكين من الظلمات إلى النور، وندعوهم إلى الله جل جلاله.
أعتقد أنك بذلك -بإذن الله تعالى- ستكون على جادة الطريق، وستكون نافعًا ومفيدًا، وأسأل الله أن يوفقك، وأن يشرح صدرك للذي هو خير.