كتبت: نور عبد الرحمن الزمان: عام 1924، المكان: مكتبة برلين. بين أروقة المكتبة العريقة، وبخطوات متمهلة بطيئة، كان الباحث الشاب ذو الملامح العربية الواضحة يتجول كعادته، عندما وقع بصره على مخطوط؛ وقع فى قلبه مخطوط ، يحمل حرف الأجداد، ويحمل الرقم (62234)، ويحمل حقيقة؛ تاريخ العلم أَسَرَّها؛ وأسَرَها كأوراق مخطوط قديم فى زاوية من قاعة المخطوطات!!
عندما انتهى الطبيب المصرى النابه: "محيي الدين التطاوي" طالب الدكتوراة فى جامعة "فرايبورج" من مطالعة مخطوط كتاب: "شرح تشريح القانون" للعالِم والطبيب العربي: "ابن النفيس" (1210 – 1288)، قَدَّر أنه يجب عليه أن يُعيد النظر فى موضوع رسالته، وقُدِر لتاريخ العلم أن يُعيد النظر فى بعض حقائقه.
فلدهشة الطبيب الباحث يسجل المخطوط العربي وصفًا للدورة الدموية، على نحوٍ يخالف تفسير "جالينوس" فى شرحها ويفوقه بدقة ملحوظة، بينما يتوافق مع تفسير الأسباني "سيرفيتوس" الذى يُنسب إليه فضل كشفها. وهنا موطن الدهشة؛ إذ يؤرَخ لكشف "سيرفيتوس" بثلاثة قرون لاحقة على كشف العالِم العربي!
تروى لنا المستشرقة الألمانية: د. سجريد هونكه فى كتابها: "شمس العرب تسطع على الغرب" ما تلى ذلك فتقول: « ففى هذا العام قدم طالب عربي شاب اطروحة باللغة الالمانية إلى كلية الطب فى جامعة "فرايبورج" احدثت دهشًا وعجبًا شديدين وجرت حولها بحوث محمومة ومقارنات عديدة فكانت النتيجة ان صادق الجميع على ما ورد فى الاطروحة من نتائج علمية، والدهشة لا تزال تملأ النفوس على المختصمين انفسهم. وبادئ ذى بدء كان هناك فقط بضعة اساتذة ألمان استمعوا الى ما ادعاه الشاب العربى، فاخرجوا من مكتبة الدولة كل المخطوطات القديمة واشبعوها بحثًا وتنقيبًا ومقارنة حتى وصلوا نهائيًا الى النتيجة الحتمية التى لم يكن منها مفر، وهى نتيجة تؤكد ان الدكتور "التطاوي"، من مصر، على حق بما جاء فيه، فإن أول من نفذ ببصره إلى اخطاء "جالينوس" ونقدها ثم جاء بنظرية الدورة الدموية لم يكن "سيرفيتوس" الأسبانى، ولا "هارفى" الإنجليزى، بل كان رجلاً عربيًا اصيلاً من القرن الثالث عشر الميلادي، وهو "ابن النفيس" الذى وصل إلى هذا الاكتشاف العظيم فى تاريخ الانسانية وتاريخ الطب، قبل "هارفى" بأربعمائة عام، وقبل "سيرفيتوس" بثلاثمائة عام »
لم يكن الأمر يسيرًا، ولكنه كان بقدر الله يسير. ففى القاهرة (حيث استقر) استقبل عالِم المخطوطات والتراث العربي والإسلامي البروفسور "ماكس مايرهوف" رسالة من الجامعة الألمانية تحمل صورًا للمخطوط النادر، وتطلب تحقيقه، وقد أجابها عالِم التراث والمخطوطات بما يُفيد صحته. إلى هنا لا ينتهى دور "مايرهوف"، بل من هنا بدأ.
ففى العام 1931 أثبت اكتشاف الدورة الدموية للعالِم العربي "بن النفيس" فى تقرير مفصل إلى المعهد المصري، وفى العام 1932 تناول ذلك فى مقال له نشرته مجلة "إيزيس Isis" أما الأهم من بين ما قام به عالِم المخطوطات، فكان رسالته إلى الأمريكى "جورج سارتون" الذي كان يُعِد فى ذلك التاريخ كتابه "تاريخ العلم"، وكان أن استدرك فى طبعته الأخيرة، ونسب الكشف العلمي الأهم فى تاريخ الطب إلى العالِم العربي.
ولنا أن نقف عند ما ذكره البروفسير "مايرهوف" معربًا عن دهشته من التطابق بين ما ورد فى مخطوط "بن النفيس" وبين ما كتب "سيرفيتوس" (الذى كان يتقن العربية بحسب د. سجريد هونكه).
يقول البروفسير معلقًا: «إن ما أثار دهشتي أثناء المقاطع التي تخص الدوران الرئوي في مخطوط ابن النفيس، هو الشبه العظيم بينها وبين الجمل التي كتبها سيرفيتوس، حتى ليخيل للمرء أن المقاطع في الكتاب العربي قد تُرجمت إلي اللاتينية بشيء من التصرف».
تعليق عالِم المخطوطات والتراث الإسلامى مقترنًا بإشارة المستشرقة الألمانية يلقى بظلال من الشك والريبة حول جدية بحث الأسباني "سيرفيتوس"، ويطرح احتمالية اقتصار جهده على ترجمة ما كتب العالِم العربي الفذ، ومما يُعزز من هذه الاحتمالية ويؤيدها أن "سيرفيتوس" قد نشأ فى أسبانيا منارة العلوم الإسلامية. وليس من الغرابة فى شئ أن يتسنى له الإطلاع على المؤلفات العربية، ولا سيما فى مجال الطب، الذى كان عِلمًا عربيًا بإمتياز فى هذا التاريخ.
شَهِد هذا التاريخ أيضًا انسحابًا إسلاميًا من أوروبا، ومخاض نهضة فى القارة الشمالية، تلك النهضة التى اتقدت بالمحارق .. وكان "سيرفيتوس" أحد ضحاياها ..
سيرفيتوس الطبيب، وعالِم اللاهوت الأسباني، ومن نُسب إليه الكشف الأول عن الدورة الدموية فى كتابه “إعادة المسيحية” – “Chrisitianismi Restitutio” عام 1553، أُلقى به وبكتابه إلى آتون نار تلظى، بعد أن أدانته محاكم التفتيش آنذاك بتهمة الهرطقة، بعد حياة قصيرة قضاها هاربًا يتنقل بين مدن أوروبا تحت إسم مستعار هو “ميشيل دي فيلنوف”. كان هذا من جراء إنكاره للثالوث الذى طرحه فى عدد من كتبه: “De Trinitatis Erroribus” “حول اخطاء الثالوث”، و “Dialogorum de Trinitate” ”حوارات حول الثالوث“.
فقد آمن سيرفيتوس، الذى كان موهوبًا فى اللغات ودرس العبرية، واليونانية، واللاتينية فى سن الخامسة عشر، وتسنى له ان يقرأ الكتاب المقدس بلغته الأصلية، بأن الثالوث تعاليم مخادعة، مقتبسة من فلاسفة اليونان، لم ينص عليها الإنجيل. وأن العودة الصحيحة للدين ستجعل المسيحية أكثر قبولاً لدي اليهود والمسلمين، الذين حافظوا على وحدة الله في دياناتهم.
أليس مدهشًا أن تكون هذه هى الخاتمة، وأقصى (والأوفق: أقسى) تقدير ناله هذا العالِم الذى نافحوا عن سبقه وفضله فى كشفٍ يُعد تحولاً فى علم الطب الحديث؟!
ولكننا قد نتجاوز الدهشة إلى الصدمة إذا ما أتتنا إجابة سؤال: من فعل؟ من أدان "سيرفيتوس" بتهمة الهرطقة؟ من أسلمه إلى محاكم التفتيش؟ من وضع أسئلة الإتهام؟ من شدد على أن تكون العقوبة هى الإعدام؟ من ساقه إلى المحرقة؟ الإجابة: "جون كالفن" رائد حركة الإصلاح البروتستانتي!!!
نعم رائد الإصلاح، الثائر على الفساد الكنسي! هكذا ظن "سيرفيتوس"! هكذا ضل "سيرفيتوس"! عندما إلتمس منه تعاطفًا وتفهمًا لأفكاره الداعية إلى وحدانية الله، التى تجعله فى بؤرة استهداف محاكم التفتيش الكاثوليكية، والتى تعربد بجنونها فى سائر الأراضى الأسبانية.
لعامين واصل "سيرفيتوس" مراسلة "كالفن"، عامان لم يزيدا "كالفن" إلا بغضًا وحنقًا على "سيرفيتوس"، إلى أن أقسم متوعدًا إنه إذا ما فكر "سيرفيتوس" في الحضور إلى "جينيف" (عاصمة البروتستانتية التى أسسها كالفن): “لن اتركه يغادرها على قيد الحياة”.
وبر "كالفن" بقسمه، بل ولم ينتظر حضور "سيرفيتوس" إلى "جينيف" وسعى فى محاكمته غيابيًا، بتقديم خطابات "سيرفيتوس" إلى محكمة التفتيش الكاثوليكية الفرنسية!، معربًا عن أمله فى أن تكون العقوبة هى الموت، وكان له ما أراد، فأصدرت محكمة التفتيش الفرنسية حكمها بالموت حرقًا!
واتُفق أن مر "سيرفيتوس" فى رحلة هروبه المتواصلة بـ "جينيف"، وحضر محاضرة لـ "كالفن"، الذى ما لبث أن تعرف عليه؛ فأُلقى القبض عليه فى 14 أغسطس 1553 م، وأُسلم هذه المرة إلى محكمة بروتستانتية، فحكمت بذات الحكم: الموت حرقًا!
وهكذا تفرق دمه بين الكنائس!!! منزويًا فى جب بارد مظلم، لا ينفذ إليه ضوء ولا حرارة، إلا قليل من طعام ، قضى "سيرفيتوس" أيامه الأخيرة، حتى كان يوم 27 اكتوبر 1553 م نُفذ فيه حكم الأعدام حرقًا، فاقتادوه إلى محرقة فُرشت بأعواد الحطب نصف الأخضر، وتُوجوا رأسه بإكليل رُصع بالكبريت، كى يحترق ببطء، يتعذب ببطء!!! بحريق "سيرفيتوس" وحرائق أخرى .. توهجت أوروبا.
فلما بلغ الانحراف والإرهاب الكنسي ذروته؛ حقت فيه السنة الكونية التى بدلت مسار المنحنى. وهكذا يروى المخطوط الذى يحمل رقم (62234) فى مكتبة برلين أكثر مما به من كلمات. ويستوقفنى سؤال .. يؤلمنى سؤال: كم مخطوطًا لم تصادف تطاوى؟ وأتساءل متى نصادف من يمتلك بصمة ك هذا الشاب