أصدر الإنسان الأول في فجر الخليقة، كغيره من المخلوقات، أصواتاً مختلفة، إما للتقليد أو للإخافة أو للتواصل مع الآخرين أو لأسباب أخرى، وبمرور الزمن طور الإنسان هذه الأصوات مع تطور حاجته إليها، لدرجة بات من المتعارف عليه لدى كل تجمع بشري أن صوتاً ما أو مجموعة أصوات يعني هذا العمل أو هذا الوصف أو هذا الاسم.
لوح مسماري يعود إلى سلالة أور الثالثة من عهد الملك شولغي عام 2056 ق.م
:
ويطلق علماء الكتابة على محاولة الإنسان نقل هذه الأصوات إلى أشكال، بصرية مرسومة بالألوان أو منقوشة على الصخور أو الأخشاب أو أوراق الشجر أو غيرها من المواد الطبيعية، اسم الكتابة، وهي عملية، على الرغم من سهولة تعلمها اليوم، من أشق الإنجازات التي توصل إليها العقل البشري واستغرق الوصول إليها آلاف السنين، واختصت بها تلك المجتمعات القديمَـة التي أرست دعائم حضارات راقية في بلاد الرافدين ومصر وسورية والهند والصين وأوربا وأمريكا الوسطى وغيرها من أقاليم العالم، وهي المجتمعات التي نَسبت معرفةَ كتابتها إلى الآلهة احتراماً وتقديساً. وعلى هذا نسب المصريون كتابتهم إلى الإله تحوت Thot والإلهة إيزيس Isis، كما نسبها البابليون إلى الإله نابو Nabo، والصينيون إلى التنين Dragon، والإغريق إلى هرمس Hermes، والفينيقيون إلى قدموس Cadmus، والرومان إلى مركور Mercurius، والألمان إلى أودين Odin، والأزتيك Aztecs، إلى كويتزال كوتال Quetzal-Coatal.
:
وقد ساعدت الاكتشافات الأثرية الحديثة على معرفة كثير عن تطور هذه اللغات والمراحل التي مرت بها، والأشكال التي اعتمدها الإنسان القديم في كتاباته الأولى، مبتكرة كانت أم مقتبسة من حضارات سابقة. واتفق علماء الكتابات على أن أقدم بني البشر استخدموا الصخور الأقسى أقلاماً ينحتون بوساطتها رسومهم على الصخور الألين، كما استخدموا دماء الحيوانات أو أي سوائل ملونة أخرى في الطبيعة كمادة من مواد الكتابة على جدران الكهوف أو الأماكن الملساء في الطبيعة أو ما تيسر من مواد أخرى.
:
وعلى الرغم من أنه لا يمكن تأريخ محاولات الإنسان الأولى للكتابة العشوائية، التي يطلق عليها بعضهم اسم المخربشات، التي قد يرقى أقدمها إلى آلاف السنين قبل الميلاد؛ إلا أن معظم علماء الكتابة يتفقون على أن أولى محاولات الإنسان للكتابة المنهجية لا تتعدى الألف السادس قبل الميلاد
لوح من سومر شاهد على مرحلة كتابة الفكرة
(القرن 33 ق.م)
:
يقسم العلماء مراحل الكتابة القديمَـة إلى ثلاث مدارس، تزعم الأولى أن الكتابة مرت بمرحلتين: أولاهما مرحلة كتابة الفكرة ideographic writing أو بالأحرى تصوير شكل ما كالشمس أو القمر أو المطر أو الجبل أو السمكة أو اليد أو القدم، لتعني عبارة أو جملة كاملة، وثانيتهما مرحلة كتابة الصوت phonographic script بعد تفريق الإنسان القديم بين الأصوات الساكنة consonants والأصوات الصائتة vowels التي يصدرها في كلامه في مرحلة أطلق عليها مرحلة تحرير الكلمات. في حين تقترح المدرسة الثانية أن الكتابة القديمَـة مرت بمراحل ثلاث: الأولى وهي مرحلة كتابة الرمز أو المجاز المعبر عن الفكرة وفيها كانت الكتابة تصويرية pictographic تمثّل الأشياء المرسومة، والثانية مرحلة الكتابة برمز الفكرة وتسمى بالمرحلة الانتقالية، وأخيراً مرحلة كتابة الصوت، حين مُثلت الأصوات بالمقاطع syllables ، بعد ذلك بالرموز الألفبائية alphabatical. في حين تذهب المدرسة الثالثة إلى أن مراحل الكتابة كانت ثلاثاً بدأت بالكتابة التصويرية وتطورت إلى الكتابة بالفكرة، وهاتان كتابتان تقرأان ولا تلفظان، ثم مرحلة الكتابة بالكلمة أو logography التي تقسم بدورها إلى مرحلتين: مرحلة الكتابة المقطعية word syllabic، ثم مرحلة الكتابة الألفبائية alphabetic order.
ويعزى إلى السومريين الذين عاشوا في جنوب الرافدين (الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد) ابتكارهم نحو سنة 3500ق.م، طرائق الكتابة بالكلمة وتطوير الخط الذي عرف بالخط المسماري cuneifom، وعنهم أخذ البابليون والآشوريون والحثيون كتاباتهم، وفي وقت لاحق نحو 3200ق.م طوّر المصريون كتابتهم المقطعية ذات المقطع الواحد، في حين طور الصينيون في القرن السادس عشر ق.م لغتهم المقطعية الخاصة، ولكنهم توسعوا أكثر من غيرهم في ابتداع مقاطع أغنت لغتهم بشكل لافت. وجاء الإنجاز الكنعاني على الساحل السوري خاتمة لكل الجهود السابقة عندما توصل السوريون القدامى منذ القرن الخامس عشر ق.م إلى تطوير ألفبائية بسيطة (مسمارية في أوغاريت وفينيقية في جبيل) مكوّنة من عدد من الحروف الساكنة والصائتة تتيح للكاتب تشكيل كلمات لاحصر لها. ومن الشاطئ السوري انتقلت الأبجدية إلى الإغريق، الذين بعد إدخالهم تعديلات عليها أوجدوا الأبجدية الإغريقية التي أصبحت بمرور الزمن أم الكتابات السلافية في أوربا الشرقية، في حين أصبحت الأبجدية اللاتينية المأخوذة عن الإغريقية أم الكتابات الأوربية الغربية.