بعد قيام الحكومة العربية في دمشق في (29 من ذي الحجة 1336هـ= 5 من أكتوبر 1918م) واجهت الدولة قضية اللغة العربية، وكانت بالغة الأهمية؛ فاللغة التركية هي لغة البلاد الرسمية في الحكومة والتدريس، والأتراك يتولون معظم رئاسات المصالح والدوائر الحكومية، والموظفون العرب أنفسهم يجهلون الإنشاء العربي؛ فكان لا بد من تدارك الموقف وعلاجه؛ فأنشأت الحكومة الوليدة شُعَبًا إدارية وفنية لمختلف أعمال الدولة أشبه ما تكون بالوزارات، كان من بينها شعبة للترجمة والتأليف، ضمت إليها أمور المعارف، وجعلتها كلها ديوانًا للمعارف، وعهدت برئاسته إلى العالم الكبير “محمد كرد علي” في (1 من ربيع الأول 1338هـ = 24 من نوفمبر 1919م). وعهدت الحكومة إلى الديوان بالعناية بأمر اللغة العربية، ونشر الثقافة بين الموظفين، واستبدال المصطلحات العربية بالتركية في الجيش ودوائر الحكومة؛ فنهض الديوان لهذه المهمة، واستعان في تحقيقها بأساتذة اللغة العربية وأدبائها، واستحدث دروسًا خاصة للموظفين لتعليم الإنشاء العربي، ومراجعة الكتب العربية القديمة ونشرات الحكومة المصرية؛ لإيجاد المصطلحات وتقرير أفصح الأساليب التي تليق بحكومة عربية واعدة. ونهض الديوان بتنظيم ميزانية المدارس، وتصحيح الكتب المدرسية المعدة للطبع، وإنشاء المدارس وتعيين المعلمين، والنظر في القوانين المتعلقة بالمعارف وترجمتها، والعناية بأساليب التربية الحديثة، والاهتمام برفع شأن اللغة العربية بالمدارس. ظهور المجمع العلمي العربي ونظرًا لاتساع أعمال ديوان المعارف، وازدياد حركة التأليف والترجمة قامت الحكومة العربية في دمشق بتقسيم الديوان قسمين في (7 من شوال 1338هـ= 8 من يونيو 1919م)؛ اختص الأول بأعمال المعارف العامة، واختص الثاني بأمور إصلاح اللغة العربية، وتنشيط التأليف والتعريف، والإشراف على المكتبات والآثار، وسُمي هذا القسم “المجمع العلمي”، وعُهد برئاسته إلى محمد كرد علي، وكان هذا إيذانًا بميلاد مجمع اللغة العربية الدمشقي. وضمّ المجمع عند تأسيسه عددًا من فحول اللغة والأدب، وهم: محمد كرد علي، وأمين سويد، وأنيس سلوم، وسعيد الكرمي، ومتري قندلفت، وعيسى إسكندر معلوف، وعبد القادر المغربي، وعز الدين علم الدين، وطاهر الجزائري. أهداف المجمع وغاياته كان أعضاء مجمع اللغة العربية في دمشق يعقدون جلساتهم في إحدى الغرف العلوية بدار الحكومة العربية، حتى تسلم المجمع مبنى المدرسة العادلية القديمة؛ فقام بترميمها وإعادتها إلى طرازها العربي القديم، وعقد أولى جلساته فيها في (3 من ذي القعدة 1337هـ= 30 من يوليو 1919م)، ثم أصدر المجمع أهدافه في بيان نشره تضمن ما يلي: – النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية، ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها، وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون من اللغات الأوربية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب. – العناية بجمع الآثار القديمة، وخاصة العربية والمخطوطات القديمة الشرقية والمطبوعات العربية والإفرنجية، وتأسيس دار كتب عامة. – جمع الآثار القديمة عربية وغير عربية، وتأسيس متحف لها. – إصدار مجلة للمجمع لنشر أعماله وأفكاره؛ لتكون رابطة بينه وبين دور الكتب والمجامع العلمية، وعلى الفور أتبع المجمع القول بالعمل؛ فعمد إلى ترجمة المصطلحات الإدارية إلى اللغة العربية، وبعث بها إلى رؤساء الدواوين ورجال الصحافة لاستعمالها، وقام بترجمة وتنقيح كثير من القوانين، وإصلاح الكتب المدرسية، واستعان بأهل الاختصاص من أساتذة المعاهد العليا للعمل على وضع المصطلحات الفنية الحديثة التي تستعملها مدرستا “الطب” و”الحقوق”. دار الكتب الظاهرية بعد أن استقل المجمع عن ديوان المعارف، وضعت دار الكتب الظاهرية تحت إشرافه، وكانت تضم آلاف الكتب المخطوطة والمطبوعة، وتحتوي على نفائس المخطوطات، وقام المجمع بوضع نظام داخلي للدار، وسعى إلى تزويدها بالكتب الجديدة، وعمل على اجتذاب القراء إليها، ووضع فهرسًا لها، وعهد المجمع إلى الشيخ “طاهر الجزائري” بإدارتها، وظل بها حتى وفاته في (جمادى الأولى 1338هـ= فبراير 1920م)، ثم أُسندت إلى “حسني الكسم”، وبقي يشرف على الدار حتى سنة (1355هـ= 1936م)، وكان المجمع يندب أحد أعضائه للإشراف على سير المكتبة. متحف الآثار العربية وكان من جملة أهداف المجمع العلمي العناية بجمع الآثار القديمة وخاصة العربية، وكانت الآثار تُنقل خلال العهد العثماني إما إلى الغرب عن طريق البعثات الأثرية، أو إلى متحف إستانبول الذي أُسس في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وقد خُصصت لهذا المتحف الناشئ أربع غرف في المدرسة العادلية، وكانت المجموعة الأثرية المخزونة في مستودع مديرية المعارف هي النواة الأولى للمتحف، وبدأ العمل في جمع الآثار المبعثرة في المساجد والمؤسسات الرسمية؛ ونظرًا لعدم وجود علماء أثريين تألفت لجنة للآثار في المجمع من بعض الأجانب وتجار الآثار، كانت تفتش عن الآثار أو تشتريها لحساب المتحف، كما كانت تقوم بتصنيف الآثار وعرضها في الغرف المخصصة لها وفقًا لموضوعها ومادتها المصنوعة منها. أنشطة المجمع العلمية كان المجمع العلمي وافر النشاط، سباقا إلى جعل الآذان تعتاد الفصحى في وقت لم تكن فيه إذاعة أو تلفاز؛ فعمد إلى إقامة المحاضرات الدورية في قاعة خُصصت لهذا الغرض في مقر المجمع، وكانت المحاضرة الأولى من نصيب العالم الكبير “عبد القادر المغربي”، وذلك في (8 من شعبان 1339هـ= 17 من إبريل 1921م)، ثم توالت المحاضرات، وتزايد إقبال الناس على سماعها، واستمر إلقاء هذه المحاضرات حتى سنة (1365هـ= 1946م)، وكانت تلقى مرة كل أسبوعين، ولم يقتصر إلقاء المحاضرات على الرجال، بل نُظمت محاضرات للنساء في موضوعات علمية وأخلاقية وأدبية، وفي اليوم المخصص لمثل هذه المحاضرات النسائية كان يخلى المجمع من الرجال. وكان المحاضرون من أعضاء المجمع، أو ممَّن يكلفهم المجمع بإلقاء المحاضرات من الرجال والنساء؛ من سوريا أو من الأشقاء العرب أو المستشرقين، وقد زادت تلك المحاضرات في تلك المواسم على الأربعمائة، طُبعت مختارات منها في مجلدات. وأقام المجمع مهرجانًا لشاعر العربية الأكبر “أبي الطيب المتنبي” سنة (1355هـ = 1936م) استمر أسبوعًا، وبعد ثمانية أعوام أقام مهرجانًا للشاعر الفيلسوف “أبي العلاء المعري” سنة (1363هـ= 1944م) بمناسبة مرور ألف عام على مولده استمر أيضًا أسبوعًا، وشارك في المهرجانين وفود من أقطاب “الأدب” من مختلف البلاد العربية. وحرص المجمع على تأبين الراحلين من أعضائه، مثل: الشيخ طاهر الجزائري، وأحمد كمال باشا، ومحمود شكري الآلوسي، ومصطفى لطفي المنفلوطي، ومحمد رشيد رضا، كما أقام حفلات تكريم لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. مجلة المجمع ومطبوعاته كانت فكرة إنشاء مجلة للمجمع قديمة صاحبَت إنشاءه، وصدر العدد الأول منها في (21 من ربيع الآخر 1339هـ= يناير 1921م) في اثنين وثلاثين صفحة، متضمنًا عددًا من المقالات بأقلام أعضائه، وظلت تصدر شهرية عدة سنوات، لكنها جابهت صعوبات مادية، جعلتها تصدر كل شهرين بدءًا من سنة (1351هـ= 1931م)، ثم أخذت المجلة تصدر فصلية ابتداء من سنة (1379هـ = 1949م). ولا تزال تصدر حتى اليوم على هذا النحو؛ ونظرًا لأهمية موضوعات المجلة وصعوبة الوصول إلى مقالاتها ذات القيمة العلمية؛ فقد قام العالم الموسوعي السوري “عمر رضا كحالة” بإعداد فهارس خاصة لكل عشر سنوات من عمرها، وصدر المجلد الأول سنة (1375هـ= 1956م) لهذا الفهرس الضخم، ويتضمن الفهرس ما صدر من المجلة في السنوات العشر الأولى، ثم توالت الأجزاء الأخرى من الفهرس. وتضمن نشاط المجمع إحياء التراث العربي، وكان هذا هدفًا من أهدافه التي تناولها بيانه الأول، وقد توالى صدور الكتب التي قام المجمع على إحيائها؛ مثل: “رسالة الملائكة” لأبي العلاء المعري، و”الدارس في تاريخ المدارس” للنعيمي، وديوان الوأواء الدمشقي، على أن المشروع الكبير الذي ينهض المجمع به هو تحقيق كتاب “تاريخ مدينة دمشق” لابن عساكر، وهو كتاب ضخم جدًا، وقد صدر منه ما يزيد على عشرة مجلدات، وما يزال المتبقي من الكتاب يحتاج إلى مزيد من الجهد حتى يتم نشره كاملاً. والجدير بالذكر أن مطبوعات المجمع قد تجاوزت أكثر من مائتي كتاب.