في مكانٍ ما بجانب البحر تتآنَس فيه بقايا حافلةٍ محترقة بالقمر، تسلَّم ضاحي العجوزُ عمَلَه كغفيرٍ مؤقَّتٍ بهيئة الطُّرُق والكباري لحراسة خامات ومعدَّات الرصف، تخطَّت ملامحُه الستين، تحكي تعاريجُ وجهه الأسمر ملاحمَ كبرى مع"لقمة العيش"، شُدَّ عودُه فلم يَنْحَنِ ظهرُه، لفظته السيارة سريعًا هو وصرته التي تحوي طعامَه الجافَّ وملابسه القليلة!
وقف يتأمَّل المكان لدقائق حتى عاجلتْه الرِّيح بصفيرها، وذهبت بعمامته، رفرفرت بعيدًا حتى اصطدمت بالحافلة، هاله هيكلُها الأسود، تقدَّم ببطء، قبض على صرته بقوة وتحفُّز، التقط العمامة ودار حول الحافلةِ يتفقَّدها، لم تطب له فكرة الدخول إليها، لم تجهز له غرفة خشبيَّة؛ فافترش الرمل واضعًا صرته تحت رأسه، استلقى على جنبه باتجاه البحر يشاهد أضواء السُّفن البعيدة، تقلَّب وأصبح قبالة الحافلة، انتفض مِن رقدته، وفرَك عينيه عدة مرات؛ فالحافلة كانتْ مُضاءةً بالكامل، ولم تَبْدُ عليها آثارُ الحريق؛ بل وخلف الستائر الخفيفة ظِلالٌ تتحرَّك، جرى ضاحي العجوز باتجاه البحر وغسَل وجهَهُ، ثم طمس رأسه كلَّه في الماء المالح.
صوتٌ قويٌّ اخترق الماء: ما بك أيها العجوز؟
أخْرَجَ رأسه بسرعةٍ مِن الماء، استدار ببُطءٍ، وجد نفسه في مواجهة شابٍّ يرتدي ملابسَ خفيفة، وعلى وجهه ابتسامة.
حَمْلَق فيه بذهولٍ: مَن أنت؟
الشاب مُستغربًا: مَن أنا؟! ما بك؟ شاهدتُك تجري و...!
قاطعه ضاحي بحِدَّة: سألتك: مَن أنت؟ ملامحك تبدو غريبةً، مؤكَّد أنك مِن طرف المقاول، لماذا تأخرت؟ كدت أُجنُّ هنا والأشباح تحتاطني، ويبدو أنها تسكن تلك الحا... الحا...
بتر حديثه وهو يشهد عددًا غيرَ قليل ينزل في بطء شديدٍ مِن الحافلة، دقائق وتناثر حوله رجال ونساء وأطفال.
تراجَع باضطراب: يا حفيظ.. يا حفيظ.. أنا لن أؤذيكم.. أنا غفير فقير، اضطرتني الظُّروف للعمل هنا، وهذا أولُ يوم عمل لي، أعدكم غدًا أعود لأهلي وأترك مكانكم، لكن لا تؤذوني، أرجوكم!
تقدَّم نحوه الشابُّ بهدوءٍ: اطمئنّ لن يُؤذيَك أحدٌ؛ فالجميعُ يحبُّك وأنا أكثرهم، هل تذكر لماذا؟! لأني كنت جوارك في الحافلة، والطريق الطويلة منحتنا فُرصةً طيبةً لنتجاذب أطرافَ الحوار قبل الحادثة.
اتسعت حدقتا ضاحي وأخذ يتمتم في هلع: الحادثة... الحادثة!
أومأ الشابُّ برأسه والحزن يبدو في قسماته: نعم، اصطدام
الحافلة واحتراقها بمن فيها؛ أقصد: بنا نحن!
حملق فيه ضاحي ولم ينطق، فأكمل الشاب: الحقيقة نحن أشباح وأنت أيضًا شبح، هيَّا بنا إلى
الحافلة قبل بزوغ الصبح.
صرخ ضاحي وتقدَّم نحوهم بحذر: أنا لست شبحًا، أنا موجود، أتكلَّم وأرى.
همس الشاب: لا تنفعل هكذا، اهدأ قليلًا، أنت لستَ شبحًا، نظر إليه العم ضاحي بانتباهٍ أكثر، وأكْمَلَ الشاب: أنت "جوست"، ضحك كلُّ المحيطين به.
غضب ضاحي، ولم يفهمْ سببَ ضحكهم، ندم الشابُّ واقترب أكثر منه وتصنَّع الجِدِّيَّة: تأتيك هذه النوبةُ كثيرًا منذ رحيلنا عن عالَمِهم، ولكن أرهقتَنا بعدم تقبُّلك للوَضْع الجديد.
فكَّر قليلًا، هل مِن السهل أن يقنعك الآخرون بغير ما تعتقد؟ لا بد أن تختبرَ ما تؤمن به.
لَمح ضاحي ضوءَ سيارةٍ قادمًا فوافقهم: أنا أصدِّقكم، ولكن اتركوني وشأني، وجرى مسرعًا باتجاه الطريق المرصوف، ومع اقتراب السيارة أشار لها واعتَرَض طريقَها.
في الصباح وقَف المقاول مُستغربًا أمام صُرةٍ على الرمال، ووجَّه حديثَه لمرافقه: أين الغفير الجديد؟ المعدَّات والخامات ستصل بعد قليل، انتظِرْهُ بضع ساعات، فإن لم يظهرْ أحضر غيره في الحال.
مشى خطوتين، ثم توقَّف: بالمناسَبة لا داعي لإنشاء كشك خشبي للغفير، أظن هذه
الحافلة المتهالِكة تفي بالغرَض