من النعم الخفية
وقفة ومراجعة لكم من آيات القرآن الكريم، جعلتني أسجد، بل أَخِرّ ساجدًا لله
على تلك النعمة التي أطلق عيها المفسِّر ابن كثير اسم "من النعمة الخفية"، نعمة
يراها بعض المسلمين ويستشعرها القلة منهم، والموقنون بها في هذا الزمان أقل.
وحتى لا نَبعُد كثيرًا، دعونا نتلمَّس تلك النعمة من بعض الآيات:
﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ [الأنفال: 12]
تصوَّر مشهدًا من معركة بدر، وثمة قضيتان في هذه الآية: الوحي الرباني إلى الملائكة
بتثبيت المؤمنين، وإلقاء الرُّعب في قلوب الذين كفروا، وتلك معروفة، ولعلك أدركت
ببصيرتك الاختلافَ في اللفظ، فحين كان الأمر يتعلَّق بالمؤمنين "أوحى الله إلى الملائكة
ولكن حين جاءت قضية الذين كفروا تَكفَّل الله - سبحانه - بذلك فقال ﴿ سَأُلْقِي ﴾
وكم الفرق الهائل بين مباشرة الملائكة ومباشرة الله - سبحانه!
فحين عمِل المسلمون ما طلب الله منهم تَكفَّل - سبحانه - بالكفار ومعاقبتهم
وكأنها رسالة لكل مسلم: كن مع الله، والله سيتكفَّل بأعدائك.
ومِثْل هذا المعنى (أعني: تكفُّل الله بمعاقبة الكفار)، ورَد في عدة آيات ومواقف، اقرأ:
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [آل عمران: 151]
﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴾ [الأحزاب: 26]
﴿ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ [الحشر: 2].
والرُّعب:
صورة من صور تَكفُّلِ الله بنُصْرة المؤمنين ومكافأتهم على إيمانهم، وهناك صور أخرى
ذكَرها القرآن الكريم لا تتعلَّق بالجماعة الإسلامية، ولكنها تتعلَّق بشخص واحد
فالنعمة الخفية لا ترتبط بالمجموعة والأُمَّة فقط، لكنها تكون أيضًا لذات الشخص
اقرأ ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ ﴾ [الأنفال: 30]
لقد كان من المقتضى في سياق الآية أن يقول: وتمكُر فأنصرك، لكن اللفظ القرآني
انتقل من ذات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرب - سبحانه -:
﴿ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، وكأنه يقول له:
لا تنشغل كثيرًا بمكرهم؛ فأنا سأكفيكهم، فكن معي ولا تخش مكرَهم، وحدث
ذلك بالفعل، وكلنا يعرف قصة الهجرة إلى المدينة وما حصل فيها من نَصْر
رباني لعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه رضي الله عنه.
وموقف أخير أختم به، يتعلَّق بشخص مع شخص، فالموقف الأول مجموعة مع
مجموعة، والثاني مجموعة أمام واحد، والثالث واحد أمام واحد.
الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش، يستمع للقرآن الكريم ويتأثَّر به
لكنه وبعد حوار مع نفسه ونظرائه يُقرِّر أنه ﴿ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [المدثر: 24]
وأنه ﴿ قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 25]، ويُعلِن ذلك على الملأ، وتنزل آيات تَصِف
هذا الموقف وتبدأ بـ: ﴿ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ﴾ [المدثر: 11]، إنه نَصْر وتأييد
رباني خاص، ﴿ ذَرْنِي ﴾؛ اتركني أتعامل معه، ولا تتعب نفسك معه، فقد وصل مرحلة
من الكُفْر والعناد استحقَّ معها أن يكون الأمر بينه وبين الله، إنها كلمة تقشعِرُّ لها الأبدان
ويقف شعر الجلد خوفًا وفزعًا، وقد أشار القرآن إلى شيءً مما سيُعذَّب به الذي قال عنه الله:
"ذرني"؛ فقال: ﴿ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴾ [المدثر: 17]، والتصعيد في الطريق: هو أشق السير
وأشده إرهاقًا، فإذا كان دفعًا من غير إرادة من المُصعَد، كان أكثر مشقة وأعظم
إرهاقًا، وكيف إذا كان الصعود إلى أعلى ( جبل )[1].
إن العناية الربانية بعباده نعمة لا تُقدَّر بثمن، ومن هذه النِّعم "النعمة الخفية"
فهلا نستشعر هذه النعمة واجتهدنا في التعرض لها بتوثيق صِلتها بواهبها؛ فلا ننشغل
بقوة الأعداء، ولننشغل برب الأرض والسماء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] جاء في بعض الأحاديث أن صعودًا: جبل من نار في النار يُكلَّف أن يصعده
فإذا وضع يده عليه ذابت، فإذا رفعها عادت، لكنها لا تخلو من ضعف.
د. جمال يوسف الهميلي
lk hgkul hgotdm
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|