12-05-2017, 08:34 PM
|
|
|
|
|
دمعة متقنة
يمسح بكمّ ثوبه أنفه ساحبا فيه الهواء بقوّة ، فيُسمع احتكاكه بالمخاط عاليا ، بينما عيناه تُغرقان بالدّموع وجنتيه البيضاوتين الحمراوتين المكتنزتين اللتين صقلهما الزّمن حتى صارتا بلمعان و شفافيّة الزجاج فترى شرايينهما دقيقة تتلوى و تلتفّ كالأفاعي بعضها حول بعض في قمّة وجنتيه ، و قمّة أنفه و سفحيه ، حشرج و قال: هُزم العرب و سقطت البلاد.
كنت صغيرا و لم أفهم الكثير ، لكنّني أحسستُ الرُّعب و الحزن في وجوه الكبار و أحاديثهم و همسهم و حركتهم ، فنُقش فيّ ما نالني منه . بعض أحاديثهم كانت تخترق أذني ثمّ عظامي فتخلّفني أشلاء صفراء في فراغ يعوي فيه قلبي بضرباته السريعة العالية ، عاجزا عن الكلام و الحركة : اليهود يخطفون الأطفال و يغتصبون البنات ، يختارون البنات و ليس النساء المتزوجات ، ليهتكوا العرض ، فهم يعرفون أنّنا لسنا خنازير مثلهم لا يهمنا عرضنا !
ففهمت هزيمة العرب و سقوط البلاد بقائمة الممنوعات التي فُرضت علينا نحن الصّغار و على البنات الصبايا ، منعونا من الخروج إلا برفقة الكبار من الرّجال .
محاصرون في البيت ... نضجر ... نختلس بضع نظرات من النّوافذ و في أحيان استثنائية من الشّرفات ، أنا لم أستخدم الشّرفة لقصر قامتي ، جرّبت مِرارا لكن دون جدوى ، فكأن الكبار كانوا على علم بقدوم مثل هذه الأيّام ، فشيّدوها أعلى من قامات الأطفال و أعلى من صدور البنات بعد أن تتكوّر فتصير همّا ، جرحا شرقيّا طازجا تفوح منه رائحة الدّم ، بعد أن كان كرزا شاميّا فوّاحا.
العالم في الخارج غليان وحراك ، الحياة في أوجها ، و نحن خلف الجدران نُنفّذ آداب الطاعة للأب والام و لليهود و للخوف ، ثم اكتشفت أن الأخ الأكبر له سلطته أيضا ، و الجدةو العم و العمّة و الخال و الجار و الصدّيق...الأسماء المدرجة على قائمة أصحاب الأمر و الطاعة تفوق قائمة الممنوعات طولا.
أسأل نفسي : لماذا يُنكّلون بنا ؟؟ لماذايستأسدون على أطفال لا يريدون سوى الرّكض في الشوارع ... و الله لا أريدإلا أن أركض فقط ، و أشعر بحبات المطر فوق جلدي ثم بالشمس تدغدغني... لاشيء أكثر من أن أشعر بالهواء يصفع و جهي و يحرق أنفي متدفّقا فيه ... و الله لا شيء أكثر .. أحدث نفسي .. و أستطرد .. و أسهب و أقسمالأيمان... ثم تغرق عيناي بالدموع ... و الله يا ربي لا أريد سوى أن أحسّكوسط جمال ما خلقت ... تعبر فجأة فراشة أو ذبابة من أمام النافذة حيثأقضي الوقت مع نفسي ... فأسارع قائلا : مثل الفراشة يا ربي مثل الفراشة . فأدرك سريعاأنه طلب ارستقراطي ، فأستدرك بل مثل الذبابة ..
و تنهمر دموعي ... و لا تغيير.. أتعب من البكاء الصامت ، إذ حتى الشهقة قد تؤدّي لمواعظ و دروس من جميع أفراد عائلتي ، تبدأ و لا تنتهي ، فتعلّمت كيف أكتم الشّهقات ، و أجعل النّحيب يُقْلِع عن عادة اكتسبها من المزاريب بعد زخات مطر عنيفة .
تجفّ فوق خديّ الدموع ،تظل دمعة تحاول الدّحرجة لكنها أصغر من أن تسقط ، كافية لتقف فوقرمش واحد أو اثنين .. ثمّ يأتيها المدد : إذا كان وفيرا ، ثقلت و انهمرت، أمّا إذا كان شحيحا ، أحسها فردت ما يشبه الجناحين على باقي رموشي...
فَرِحتُ حين اكتشفت اللّعبة و صرت أمارسها مستمتعا . التصقت بنافذتي لا أبارحها ، أنتزع منها نفسي انتزاعا حتى عندمايُفك الحصار ، و يسمح بالتّجوال برفقة الكبار . أجلس كمن يجلس في محراب ، أستجدي دمعة متوسطة الحجم ، أشعر بها تقف فوق الرمش ثمّتنتفخ و تفرد جناحيها ... ما أروع أن تفرد الدموع أجنحتها... ما أروع أنتجلس صامتا و رموش عينيك تحت جناحي دمعة ... في تلك اللحظة ، تسمع و تحسما لا يسمعه و لا يحسه أحد ... نحيبُ الطبيعة ... كنت اشعر ، و اللهكنت أشعر كيف تنتحب الطبيعة بين يدي و على كتفي ، أمدّ كفي التقط دموعها ... و الله كانت ساخنة!! بعد تمرّسي صرت أحس المادة ، المادة نفسها تشهق وتنتحب في حضني ...
تمرّ الغيوم عالية في السماء منأمام نافذتي و لا تعيرني انتباهها ، و لمّا صرت أسمع نحيب الأشياء حولي ، وأسمع زمزمت النار في عروقها و عروقي ، صارت الغيمات تلوح لي بيديها ... كنانتبادل التّحيّة. عندما تيقّنت من انتظاري لها كعاشق فات موعده لكنّه لا يبرح المكان ، غيّرت مسارها ، تقترب و تعرّج على نافذتي ثمّ تطل برأسها في غرفتي ، تبتسم و تسألني عن حالي و تعتذر عن التأخير بسبب الرّيح كانت مشغولة بتمشيط أشجار الغابة هناك خلف البيوت... تحاولّ المكوثَ ، يستعجلها الرّيح ، أتشبّث باطراف أناملها ، فيشدّها أكثر فأتشبّث بها أكثر ، تقهقه كأنّا ندغدغها ، فأضحك مثلها .. أضحك حتى تنهمر دموعي فتفلت من يدي و تمضي...
بعض المرّات كان يطول انتظاري ، أحتفظ بدمعة متوسّطة الحجم على إحدى رموشي فتلفّني تحت جناحيها .. أغفو و خدّي على حديد نافذتي ، فتأتي الغيمات تقف تنظر إلي ، تترجّل الرّيح و تلبس عباءة نسمات عليلة تتزحلق فوق وجهي ، ثمّ تمد الغيمات أناملهاو تلهو بشعري ، أفيق على قشعريرة لذيذة تسري في عروقي.. أفتح عيني ، أبتسم ، فأفقد جسدي ، أصبح خيط دخانيتمطى في سماء الغرفة ... فتدخل الغيمات ، تلتفّ حولي و... نرقص ... نرقص .. و هي تتلوى ، تشكّل و جوها و أشكالا لاأعرفها ... أدمنت ... لا انكر أنني أدمنت لعبة السّحاب ، كثرت الأشكال و تنوّعت ، فمرة أراها قمرا ومرة أراها وجوها... ضفائرا ... خصلا وأنامل ، شفاه تبتسم ، رموشا مقلوعة تحمل فوق رؤوسها دمعاتيالمُتقنة.. أطفالا ... عشرات الاطفال ... صدور بنات تكوّرت و تعرّت...
أفق ياحكيم ، أفق ، كل ذلك كانو أنت الآن ... عاقل ، إخجل يا رجل ، أين وقارك و اتزانك؟؟؟
ألملم خيوط دخاني و أدخلى قمقمي ، أستعيد جسدي و أشيح بوجهي ، أسرع الخُطى ، لأنّ دمعة متقنة تقفعلى رأس رمش و تفرد جناحيها على باقي رموشي ، أخاف تثقل فتسقط ، فتفضح حالي...
...لاشيء تغيّر ... لا شيء تغيّر ... كل شيء كما كان..
|
]lum ljrkm ler,f dguf
تسلم يدينك غلاتي امجاد على الأهداء الرائع
اشكرك ياخياط على هذا تكريم الرائع ما قصرت ربي يسعدك
شكرا على تكريم الرائع ما قصرتي شموخي ياقلبي
|
2 أعضاء قالوا شكراً لـ ملاك الورد على المشاركة المفيدة:
|
|
أدوات الموضوع |
إبحث في الموضوع |
|
|
انواع عرض الموضوع |
العرض الشجري
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 07:08 PM
|