تفسير آية:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾
قال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 58 - 60].
سبب النزول:
قال ابن جريج: أخبرني داود بن أبي عاصم، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت ووراءه رجل - يعني من المنافقين - فقال: ما هذا بالعدل، فنزل: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾.
والغَرَض الذي سِيقَتْ له: ذكر بعض شنائع المنافقين ومطاعنهم، والرد عليها، وبيان مصارف الصدقات.
ومناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر بعض قبائح المنافقين أردف ذلك بذكر بعض قبائحهم الأخرى.
ومعنى ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾؛ أي: ومِن المنافقين مَن يعيبك ويطعن عليك بسبب قسمة الزكوات، فالضمير في منهم للمنافقين، و(اللمز) العيب والطعن، و(في) للسببية، و(الصدقات): الزكوات، وقيل: الغنائم، والأول أرجح بشهادة السياق.
وقوله: ﴿ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ استئناف لبيان فساد لمزهم، وأنه لا منشأ له سوى حرصِهم على حطام الدنيا وقبيح أثرتهم.
ومعنى ﴿ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾؛ أي: فإن منح هؤلاء المنافقون من
الصدقات فرِحوا واطمأنوا، وإن لم يمنحوا منها شيئًا سارعوا إلى المغاضبة واللمز.
و(إذا) في قوله: ﴿ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ للفجاءة، وقد وقعت هنا موقع فاء الجزاء، وهي تخلف فاء الجزاء في الربط على حد قوله: (وتخلف الفاء إذا المفاجأة)، والأصل: فهم يسخطون، وإنما عبر بـ(إذا) الفجائية هنا لبيان أنهم بمجرد حرمانهم يفاجِئون بالسخط ويُبادِرون بالغضب.
وقوله: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا... ﴾ إلى آخر الآية بتمامها واقعة في حيز الشرط، وهو ﴿ لَو ﴾، وقد سيقت لإرشادهم إلى الآداب التي يجب التحلي بها، وبخاصة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواب الشرط محذوف تقديره: لكان خيرًا لهم.
وقوله: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ إلى آخر الآية، للرد على الطاعنين ببيان أن الله تعالى هو الذي بيَّن مصارف الصدقات، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم قاسم، والله عز وجل يعطي، و﴿ إِنَّمَا ﴾ للحصر، و﴿ الصَّدَقَاتُ ﴾ جمع صدقة، وهي تشمل الواجبة والمندوبة، والمراد هنا الواجبة؛ لأن المندوبة لا مانع مِن توزيعها على غير هؤلاء الأصناف الثمانية.
و(الفقراء) جمع فقير، وهو في الأصل المفقور الذي نُزعت بعض فقاره من ظهره، فصار لا يقوى على القيام، والمراد هنا: مَن لا يملك شيئًا، فهو أسوأ حالًا من المسكين.
و(المسكين) في الأصل مأخوذ من المسكنة، وهي الذلة والتواضع، والمراد هنا مَن يملك مالًا لا يسدُّ حاجته، فهو أحسن حالًا من الفقير، وذهب قوم إلى أن الفقير هو الذي يملك ما لا يسد حاجة، وأن المسكين مَن لا يملك شيئًا، والأولُ أقرب، على أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتَمَعا؛ كالإيمان والإسلام، وقد اجتمعا في هذه الآية فمعناهما مفترق كما بيَّنا.
وقوله: ﴿ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ﴾؛ يعني الساعين في جمعها كجُباتها وكتَّابها.
وقوله: ﴿ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾؛ أي: المجمعة قلوبهم، وهم مَن دخل في الإسلام بنيَّة ضعيفة، وهو مطاع في قومه، وفي إعطائه صلاح له ولغيره.
وقوله: ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾؛ أي: في فكاك الأرقاء والأسرى، والتعبير بـ(في) هنا دون اللام التي عبر بها في الأصناف الأربعة السابقة لبيان أن الأصناف السابقة تُعطى على سبيل التمليك دون الأصناف الأربعة الأخيرة.
والمراد بـ ﴿ الْغَارِمِينَ ﴾ المَدينون الذين لا يستطيعون قضاء ديونهم.
ومعنى ﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: في الغزو، وقيل: الحج، والمراد بـ(ابن السبيل) المسافر البعيد عن أهله وماله، وقد أضيف إلى السبيل - وهو الطريق - لملازمته له.
وقوله: ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: قضاءً مفروضًا مِن الله، ونصب فريضة على أنها مصدر لِمَا دل عليه صدر الآية، وهو قوله: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ... ﴾؛ لأنَّ معناه: فرض الله
الصدقات لهم، ونقل عن سيبويه أنها منتصبة بفعل مقدر؛ أي: فرض الله ذلك فريضة، ويجوز أن تكون منتصبة على الحال من الضمير المستكن في قوله: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ ﴾؛ أي: إنما
الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة؛ أي: مفروضة من الله.
وقوله: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ تذييل للإشارة إلى جمال هذا التشريع.
وقد اختلف العلماء هل يجب تقسيط
الصدقات على الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى بعضهم دون بعضهم الآخر؟
فذهب الشافعي إلى أنه يجب تقسيطها على الأصناف الثمانية، وأن يعطى من كل صنف ثلاثة على الأقل، واحتجَّ بأن في الآية جمعين أحدهما بالصيغة والثاني بالواو، فيجب العمل بالجمعين؛ إذ الفقراء جمع والمساكين جمع... إلخ، وقد عطف بينهما بالواو التي تفيد الجمع.
وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور أهل العلم إلى جواز صرفها إلى صنف واحد، وجعلوا الواو بمعنى أو.
كما جوز مالك وأبو حنيفة صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف؛ لأن (أل) في الفقراء للجنس؛ إذ يستحيل كونها للاستغراق، وليست للعهد، فتعين أن تكون للجنس، وهو يصدق بواحد، كما اختلف العلماء في المؤلفة قلوبهم، فذهب الحنفية وبعض السلف إلى أن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط؛ لأن الله عز وجل أعز الإسلام، فلا حاجة إلى تألفهم.
وذهب الشافعي وأحمد ومالك في إحدى الروايتين عنه إلى أن سهمهم لم يسقط، والآية تشهد لهم، وقد ذهب الحنابلة إلى أنه يجوز أن يحسب عبده من الزكاة ويعتقه، ومنع ذلك بعض أهل العلم.
الأحكام:
1- لا يجوز الطعن على عمل من أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- لا يجوز أن يقال: حسبنا الله وفلان.
3- يجوز أن يقال: سيؤتينا الله من فضله وفلان.
4- يجب البعد عن صفات المنافقين.
5- لا يجوز أن يُعطى من الزكاة غير الأصناف الثمانية.
6- لا يجوز أن يُعطى العامل على الزكاة وإن كان غنيًّا.
7- يجب أن تكون الرغبة إلى الله وحده.