كنتُ أرتدي بنطالا من نوع الجينز وقميصا حريريا بلونٍ كحلي فاتح،ففي منتصف
التسعينات من القرن الماضي كانت الفتيات تفضِّل ارتداء البنطال على ارتداء التنورة
أو الفستان، وبخاصة في أماكن العمل أو الدراسة. كنت قد ضممتُ شعري الى الخلف
بتسريحة "ذيل الحصان"، لشدة حرارة ذاك النهار غير المعتادة في أوائل شهر
أيار،فبدوت كتلميذة في المدرسة لا معلمة فيها، ولربما هذا هو السبب الذي جعل الجنود
يتجاهلونني عندما عبروا بوابة المدرسة حيث كنت أقف، وتابعوا اندفاعهم نحو زميلتي
"تغريد" التي كانت تقف على بُعد أمتار قليلة مني. كان مشهد اقتحام الجنود الثلاثة
للمدرسة مُستغربا أكثر من كونه مخيفا،فقد كان أحدهم يمشي وهو ممسك بذراع "سالم"
اليمنى، أما الجنديان الآخران فقد سارا الى جانب "سالم" من الجهة اليسرى، وعشرات
الطلاب من الخلف يتبعونهم، ومعهم أنا، مستغربين، مستهجنين المشهد. لكن لا أحد منا،
حاول ان يأتي بسلوك مخلٍ بالنظام.
كان اليوم، يوم خميس،وفي يوم الخميس تقع مناوبتي،وفيها تكون مهمتي مع عدد من
الزميلات من بينهن الزميلة "تغريد"، الحفاظ على أمن الطلاب وحفظ النظام أثناء
الاستراحة. فكنَّ، لهذا الغرض، نتوزع في الساحات ومداخل المدرسة وقت الاستراحة،
كلٌ منا حسب الموقع المحدد لها. وبما أنه لم يكن للمدرسة مقصف خاص بها،فقد كان
يُسمح لمَن لم يحضِر من الطلاب طعامه معه من البيت، بأن يخرج ليشتريَه من حانوتٍ
محاذٍ للبوابة الخارجية للمدرسة، والتي تبعد بضعة أمتار عن الشارع الرئيسي، شارع
الناصرة- شفا عمرو.
وصل الجنود الى موقع المعلمة "تغريد"، التي لم تستطع سنوات عمرها الأربعين أن
تسرق من جمالها وأناقتها شيئا. فقد كانت المعلمة "تغريد" جميلة، أنيقة الثياب والزينة،
حيث اعتادت أن ترتدي التنورة مع السترة، وتنتعل الحذاء مع الكعب العالي، وتزيّن
عنقها بعقد من اللؤلؤ. وعندما وصلها الجنود، سألها أحدهم والممسك بذراع "سالم"،
باللغة العبرية دون مقدمات ودون سلام:
أنتِ المديرة؟
لأ . شو في؟ مالو سالم؟ قالت المعلمة تغريد.
لم يجبها الجندي عن سؤالها، بل سألها:
أين المدير؟ أين غرفته؟
المدير مش موجود. إسا بنادي النائب. أجابته المعلمة "تغريد".
حضر الاستاذ عمر، نائب المدير مسرعا، بعد أن انتشر خبر دخول الجنود الى ساحة
المدرسة كانتشار النار في الهشيم. وهنا،اقترحتُ أنا بأن يدخل الطلاب الى صفوفهم قبل
أن ينتهي وقت الاستراحة تفاديا لأي تطور قد يحدث، وهكذا كان.
" سالم"، ابن الصف السادس، لم يدخل مع زملائه الى الصف،إنما اصطحبه الجنود
معهم بعد أن باءت المفاوضات بينهم وبين نائب المدير بالفشل.
أنت مصدق أن الولد لوّن مسطرته الخشب بألوان علم فلسطين ولوّح بها للسيارات في
الشارع الرئيسي فقط للهو؟ قال أحد الجنود لنائب المدير.
نعم أنا مصدق الولد. أجابهم بحزم.
ولم يستطع ثلاثتنا، نائب المدير وأنا والمعلمة تغريد، من إقناع الجنود بأن ما فعله سالم
ما هو الا نتيجة لفعالية نُفذت في حصة الفنون،بل أجبروا نائب المدير على مرافقهم هو
أيضا الى مركز الشرطة لإجراء تحقيق معه ومع سالم، بعد أن اتهموه بالتستر على سالم
وعمله الإرهابي.
وبما أن الفترة لم تعرف بعد وسائل التواصل الإلكترونية،فلم يحظّ الموضوع بتغطيةٍ
واسعة،وانما جاءت تغطيته متواضعة في صحيفة الاتحاد حيث نشرت في اليوم التالي
بضع سطور تمتدح فيها محامي الدفاع الجبهوي الذي استمات في دفاعه عن التلميذ
ومعلمه، وأرفقت معها صورة لحافلة الجنود يطلُّ منها المعلم وتلميذه سالم عند نقلهما
لمركز الشرطة.