بسم الله الرحمن الرحيم
لو أن ثريا بلغ بالثراء مبلغا عظيما تعدى ماله مال قارون ثم أراد أن يكرم من الأجراء من يستحق الإكرام ، فنادى ذات يوم للعمل ، فاجتمع عنده أربعة آلاف عامل ، فسألهم عن أجرة يومهم فاختلفوا ما بين مائة ريال وثلاثمائة ، عندها قال لهم سأعطيكم أعلى ما طلبتم على أجرة يومكم ، وبعد أن وعدهم بوفاء الأجر لهم أخبرهم عن طبيعة العمل الذي جمعهم إليه ، فقال لهم تعلمون ما أصاب الطرق مما يؤذي الناس في طرقاتهم ، لذا سأعطيكم أكياسا لتجمعوا المسامير والزجاج فقط ، فوافق بعضهم واعترض البعض الآخر، وقالوا كيف نعمل هذا العمل المهين ؟ فقال هذا من شعب الإيمان وأنا طلبت فقط المسامير والزجاج ولم أعرض عليكم جمع كل الزبالات ، فاستكبروا وانصرفوا ، ثم أعطى من قبل منهم الأكياس وواعدهم الساعة الرابعة مساء ليقف على عملهم و يوفيهم أجرهم ، فانصرفوا يحملون الأكياس وتركهم بلا رقابة ، فاختلفوا في الجهد فبعضهم عمل الثمان ساعات كلها وبعضهم عمل سبعا وبعضهم عمل ساعة واحده ، فاقبلوا على الموعد عصرا يحملون أكياسهم ما بين مقل ومستكثر، فلما اجتمعوا إليه وحان إعطائهم الأجر قال لهم أرأيتم لو أعطيتكم ثلاثمائة ريال أكنت وفيتكم أجركم ، قالوا نعم قال فعندي لكم مفاجأة ، لقد أبليتم بلاء حسنا لذلك أعلن لكم أن المسمار الواحد بعشرة آلاف ريال وعلبة الزجاج بثلاثين ألف ريال ، عندها كل واحدا منهم أمسك وثاق كيسه ، وعلتهم الدهشة والفرحة ، وأخذ المستقل يطلب مسمارا واحدا من صديقه فيأبى ، ويقول له لو طلبتني أكثر الكيس قبل أن أعرف الإكرام لأعطيتك أما وقد عرفت فلا ، فيترجاه لقلة ما جمع فيرد عليه هذا جزاء عدم الوفاء منك والإتمام حين لم تعمل إلا ساعة واحده ، فلا يمنح أحدهم الآخر ما جمع ولا جزء منه ، فانصرفوا بعدما قبضوا الثمن ، فمنهم من ملك خمسين مليونا ومنهم من ملك مائة مليون ومنهم أقل وأكثر حسب ما جمعوا من الزجاج والمسامير، وحين رأى المستكبرون الجزاء ملكهم الغيظ والقهر والندم ....
ترى أيها الأحبة ، لو أعاد الثري الأمر من الغد فهل سيتخلف أحد ؟ بالطبع لا بل سيستمرون ويجتهدون اجتهادا بليغا ، حتى وقت طعامهم وشرابهم سيستغل لجمع المسامير .
هذا المثل أيها الإخوة ضربته ولله المثل الأعلى لنعلم قدر
الحسنة التي فرطنا فيها كثيرا ، ولأبين كم بلغ بنا تضييع الأوقات في غير ما يقربنا إلى الله تعالى ، حين يقف الناس بين يدي ربهم يوم القيامة يوم التغابن ، وحين يرون كم يدفع الله بسبب
الحسنة من العذاب وكم يرفع بسببها من الدرجات حين ذاك يعرفون قدرها ، ولا ينفع الندم والحسرة حينئذ ، في ذلك اليوم العصيب حين يرى الإنسان أهوال يوم القيامة ، وحين يخشى الهلاك والعذاب ، وحين يرى غضب الجبار سبحانه ، حينها لا يفرط الإنسان بما جمع من حسنات ، ولو جاءته أمه أو أبوه يطلبونه حسنة واحدة ليخلصوا أنفسهم من عذاب جهنم ما اعطاهم ، ولو جاءه أحب أبنائه أو رفيقة دربه ما أعطاهما ، بل سيفرح لو تحملوا أوزاره وذنوبه ، ولو عرض عليه أن يكون أباه وأمه وأبنائه وزوجته وأقربائه وعشيرته والناس جميعا فكاكه من النار لقبل وتمنى ذلك ، يقول الله تعالى ( يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ(11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ(12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ(13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ ) وقال الله تعالى ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ(37) )
أيها الإخوة جمع الحسنات والاجتهاد فيها دأب قليل من الناس ، والناس عن آخرتهم منشغلون إلا من رحم ربي ، في حين أن الله سهل جمع الحسنات ، ومكن جميع الناس بلا استثناء منها ، فالناس كلهم على اختلاف أحوالهم يستطيع الواحد أن يسبق إلى الله تعالى ، حتى لو كان فقيرا معدما ، أو كان مريضا مقعدا ، بل وحتى لو كان معطل الأطراف واللسان ، بذكر القلب وأعمال القلب يستطيع أن يسبق إلى الله تعالى ،
الحسنة أيها الإخوة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والحسنة خير من الدنيا وما فيها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء ) أخرجه الترمذي في سننه ولا ريب أن
الحسنة خير من جناح البعوضة .
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال" ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".رواه مسلم . وفي رواية (لهما أحب إلي من الدنيا جميعاً) وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال موسى : يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى : لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا قال: يا موسى ، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة ، مالت بهن لا إله إلا الله .. رواه ابن حبان ، والحاكم وصححه .
أخي وفقك الله لمرضاته إعلم أن وعد الله حق ، وأن خزائن الله لا تنفد ، وأن الخلق كلهم لو حقق الكريم جميع أمنياتهم ما نقص ذلك من ملكه شيئا ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر أن الله تعالى يقول ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته : فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته : فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً : فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد ، واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. رواه مسلم
أخي المسلم : كم ضيعت من الحسنات ، كم من تكبيرة و تهليلة وتحميدة ضيعتها ، وكم من تسبيح وأذكار ضيعتها ، كم من أعمال صالحة يسيرة لا تكلفك جهدا ضيعتها ،كم وكم وكم مواقف لا تحصى مرت عليك في عمرك راحت هدرا ، فاستثمر أخي المسلم وقتك في طاعة الله تعالى وحقق قول الله تعالى (( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163) ))
اجعل حياتك لله تعالى ، ولا تجرح دينك لصالح دنياك ، ولا تكن ممن يختلس من أوقات العبادة والذكر لصالح الدنيا ، فوالله الذي لا إله غيره لو علمنا علم اليقين عظم فضل الله تعالى لاستثمرنا كل أوقاتنا في طاعة الله ، ولتخففنا من دنيانا لصالح ديننا ، ولغلب أمر الآخرة أمر الدنيا ، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى وغفر لي ولكم ولوالدينا ووالد والدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .