الجواب :
الحمد لله
تقدير
الخلاف ، والحكم عليه بأنه "سائغ" ، "معتبر" ، أو خلاف ذلك ؛ مرجعه إلى النظر إلى دليله ، في أكثر تعريفات الفقهاء والأصوليين ، فما بُني على " حجة " معتبرة من حيث الثبوت ، أو الدلالة ، أو القياس ، أو المصلحة ، أو الإجماع والآثار ، أو العقل والعرف والعادة ، فهو قول معتبر ، والخلاف الذي أحدثه معترف به.
جاء في كتاب " الرسالة " للشافعي (1/ 560):
" قال : فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم ، فهل يسعهم ذلك ؟
قال : فقلت له : الاختلاف من وجهين :
أحدهما : محرم . ولا أقول ذلك في الآخر .
قال : فما الاختلاف المحرم ؟
قلت : كل ما أقام الله به الحجة في كتابه ، أو على لسان نبيه ، منصوصاً بيِّناً : لم يحل الاختلاف فيه ، لمن علمه .
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ، ويُدرك قياساً ، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس ، وإن خالفه فيه غيره : لم أقل إنه يَضِيق عليه ضِيقَ
الخلاف في المنصوص " انتهى.
ويقول الإمام العز ابن عبد السلام رحمه الله :
" الضابط في هذا :
أن مأخذ المخالف ، إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب ، فلا نظر إليه ، ولا التفات عليه ، إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلا شرعا ، ولا سيما إذا كان مأخذه مما يُنقض الحكمُ بمثله " انتهى من " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (1/ 253) .
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" إنما يعد في
الخلاف : الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف.
وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل، أو عدم مصادفته ، فلا .
فلذلك قيل : إنه لا يصح أن يعتد بها في
الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، والمتعة ، ومحاشي النساء ، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها " انتهى.
ويقول الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله – في حديثه عن شرط
الخلاف المعتبر -:
" أن يقوى مدرك
الخلاف . فإن ضعُف ونأى عن مأخذ الشرع : كان معدودا من الهفوات ، والسقطات ، لا من الخلافيات المجتهدات ...
وهناك تنبيه على أنه لا نظر إلى القائلين من المجتهدين ، بل إلى أقوالهم ومداركها قوة وضعفا ، ونعني بالقوة ما يوجب وقوف الذهن عندها ، وتعلق ذي الفطنة بسبيلها ؛ لانتهاض الحجة بها ؛ فإن الحجة لو انتهضت بها لما كنا مخالفين لها .
إذَا عرفت هذا : فمن قوي مدركُه اعتُد بخلافه ، وإن كانت مرتبته في الاجتهاد دون مرتبة مخالفه ، ومن ضعف مدركُه لم يُعتدّ بخلافه ، وإن كانت مرتبته أرفع ، وربما قوي مدرك بعضهم في بعض المسائل دون بعض ؛ بل هذا لا يخلو عنه مجتهد .
وقوة المدرك وضعفه : مما لا ينتهي إلى الإحاطة به إلا الأفراد ، وقد يظهر الضعف أو القوة بأدنى تأمل ، وقد يحتاج إلى تأمل وفكر ، ولا بد أن يقع هنا خلاف في الاعتداد به ، ناشئا عن المدرك قوي أو ضعيف " انتهى من " الأشباه والنظائر " (1/ 112) .
فإذا تبين أن المدار على " المَدرك " قوة وضعفا ، ثبوتا ووهاء ، علمنا أن البحث في هذا الشأن هو من ولاية العلماء والفقهاء ، الذين يميزون مدارك الأحكام ، وموارد الأفهام ، ولهم باع وتخصص في تعاطي أقوال الفقهاء ، والحجاج الفقهي والأصولي ، ولهم في كل مسألة نظر خاص ، فقد يكون الاحتجاج بقول الصحابي في مسألة احتجاجا معتبرا ، في حين أنه احتجاج ضعيف غير معتبر في مسألة أخرى ، بسبب ثبوت الإجماع مثلا ، أو ضعف الرواية ، أو حكاية تراجع ذلك الصحابي ، ونحو ذلك من احتمالات تقليب الأدلة بين العلماء .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
"فإن قيل : فماذا يُعَرِّف من الأقوال ، ما هو كذلك ، مما ليس كذلك ؟
فالجواب :
أنه من وظائف المجتهدين ، فهم العارفون بما وافق أو خالف .
وأما غيرهم ، فلا تمييز لهم في هذا المقام .
ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب :
فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي، من نص متواتر ، أو إجماع قطعي ، في حكم كلي.
ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني . والأدلة الظنية متفاوتة ، كأخبار الآحاد ، والقياس الجزئية .
فأما المخالف للقطعي ؛ فلا إشكال في اطراحه ، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه ، لا للاعتداد به .
وأما المخالف للظني ؛ ففيه الاجتهاد ، بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره " انتهى من " الموافقات " (5/139-140) .
ولا أحد يدعي – في مقام التمييز بين
الخلاف المعتبر ، وغير
المعتبر – أنه يملك خطا أحمر محددا ودقيقا في جميع المسائل ، لا يجوز لأحد أن يخالف فيه ، بل هذه القضية التمييزية نفسها ، يدخلها قدر من الاختلاف والنزاع في التنزيل والتطبيق .
ولكن اختلاف العلماء في بعض المسائل : إن كانت من
الخلاف السائغ ، أو المردود ؛ لا يلغي الضوابط العامة ، والمناط الكلي الذي ذكروه ، ونقلناه سابقا ، وهكذا دائما وقوع
الخلاف في بعض الصور والتطبيقات : لا ينبغي أن يلغي الأصول الكلية ، والفوارق العامة .
ولهذا كله يكفيك أن تخرج من جوابنا هذا بخطوط عريضة ، تقرب إليك
ضابط المسألة - دون حسم لكل الجزئيات أو الخلافيات التي تتفاوت فيها الأنظار - يمكننا إجمال خلاصتها بالنقاط الآتية:
1. إذا كان القول المخالف مناقضا للنصوص الصريحة القطعية من الكتاب والسنة : فلا عبرة به .
2. إذا وقع على خلاف الإجماع الصحيح المنضبط : فلا عبرة به .
3. إذا كان قولا مهجورا يتقيه العلماء على مدار تاريخ الفقه ، ويضربون به المثل في الضعف ، والإبعاد .
4. إذا كان
الخلاف مناقضا لمقاصد الشريعة ، وقواعد المصالح التي جاءت بها ، فأدى إلى عنت شديد ، وخروج بحياة الناس عن اعتدالها إلى العنت ، فالخلاف فيه غير معتبر .
ومن ذلك تتبين أيضا أن أكثر اختلاف العلماء في مسائل الشريعة ، إنما هو من
الخلاف المعتبر ، كما نص على ذلك الشاطبي رحمه الله حيث قال : "
الخلاف الذي لا يعتد به قليل " انتهى من "الموافقات" (1/164) .
وذلك من رحمة الله بهذه الأمة ، حيث حفظ عليها أفهامها السائغة للشرع ، ووسع عليهم في طرق التدبر والاستنباط ؛ كي لا تتيه في بيداء النزاع التأويلي ، ولا تقع الأمة ـ بمجموعها ـ في حرج أو عنت ، ولا تنقلب عن منهاجها كأمة وسط أخرجت لهداية الناس .
وأقرب علامة يستعين بها غير المختص ، على الفرق بين
الخلاف السائغ
المعتبر ، والخلاف غير السائغ وغير
المعتبر ، هي : أن ينظر ما عليه السواد الأعظم من المسلمين ، فإذا وجد قولا محدثا يخالفهم ، فخلافه ـ في الغالب ـ غير معتبر .
وفي مثل ذلك ، عادة ما يقول الإمام ابن جرير الطبري – عن أحد الأقوال -:
" هذا قول لا نعلم قائلا له من أهل التأويل ، وكفى خطأ بقوله خروجه عن أقوال أهل العلم ، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه . فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده ! " .
انتهى من " جامع البيان " (10/55)
ويقول الشاطبي رحمه الله :
"فإن قيل :
فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك
ضابط يعتمده أم لا ؟
فالجواب :
إن له ضابطا تقريبيا ، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا : قليل جدا في الشريعة ، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها ، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر .
فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة ، فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين ، لا من المقلدين" انتهى من " الموافقات " (5/139-140) .
وللتوسع في أمثلة فقهية على نوعي
الخلاف ، يرجى النظر في الفتوى رقم : (70491) .
والله أعلم .