08-21-2022, 03:25 AM
|
|
|
|
عمرو بن العاص .. الأمير المجاهد
في سِفْرِهِ النفيس "عمرو بن العاص الأمير المجاهد"، يعيش الكاتب د. منير الغضبان في أجواء صادقة يصف خلالها سيرة هذا الطود الشامخ من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الكرام، ويتصدر الكتاب بتلك المقولة الواقعية التي تلخص حجم المؤامرة التاريخية على هذا الأمير المجاهد؛ حيث يقول: ما إن تذكر عمرًا حتى يتبادر إلى الناس ذلك الخادع المحتال الذي خدع أبا موسى الأشعريَّ، ونقض اتفاقه معه، وأبقى بمعاوية وخلع عليًّا، وبذلك ينصرف عامة الناس عن ذكر عمرو بن العاص.
فهل يجوز لمثل هذه الشخصية العظيمة أن تبقى غفلًا في التاريخ، لا يُعرَف عنها إلا المكر والخديعة؟!
• قال عمر بن الخطاب عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "ما ينبغي لأبي عبدالله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا".
وما قال هذا إلا لأن عمرًا من الوسامة والجمال والجسم الممتلئ والقامة المتسقة مثل أبيه العاص بن وائل؛ قال ذاخر المعافري: "قام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلًا ربعة قصير القامة، وافر الهامة، أدعج (أسود العينين)، أبلج (مضيء مشرق)، عليه ثياب موشية كأن بها العقيان (الذهب الخالص)، تأتلق عليه، وعليه حلة وعمامة وجُبَّة".
• قال عثمان بن عفان: "إن عمرًا لمجرأ وفيه إقدام وحب للإمارة".
• قال الليث بن سعد: "قال عمرو بن العاص: ما كنت بشيء أتجر مني بالحرب".
• وقال عمرو يصف موقعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدًا من أصحابه في أمرٍ حَزَبَهُ منذ أسلمنا، وقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، لقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالدٍ كالعاتب".
• ويقول الصديق لعمر رضي الله عنهما: "دَعْهُ؛ فإنما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا؛ لعلمه بالحرب".
• قال ابن حجر في الإصابة عن يحيى بن بكير عن الليث: "تُوفِّي وهو ابن تسعين سنة، قلت: قد عاش بعد عمر عشرين سنة، وقال العجلي: عاش تسعًا وتسعين سنة، وكان عُمْرُ عمرَ ثلاثًا وستين، وقد ذكروا أنه كان يقول: أذكر ليلة وُلد عمر بن الخطاب؛ أخرجه البيهقي بسند منقطع، فكأن عمره لما وُلد عمر سبعَ سنين".
• أبوه العاص بن وائل السهمي زعيم من زعماء قريش في الجاهلية، وقاد بني سهم في حرب الفِجار، وكان عمر عمرٍو عشرَ سنين، أما أمه فكانت من سبايا العرب.
• وذكر أنه جُعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص عن أمه وهو على المنبر فسأله، فقال: أمي سلمى بنت حرملة تلقب النابغة من بني عنزة، أصابتها رماح العرب، فبِيعت بعُكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبدالله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت، فأنجبت، فإن كان جعل لك شيء فخُذْهُ.
• إسلامه كان سنة ثمانٍ للهجرة مع عثمان بن طلحة (هو حاجب الكعبة)، ولما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رَمَتْكُم مكة بأفلاذ أكبادها)).
• قيل لعمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟ فقال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدُّمٌ وسِنٌّ توازي حُلُومهم الجبال، ما سلكوا فجًّا فتبعناهم إلا وجدناه سهلًا، فلما أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم، أنكرنا معهم، ولم نفكر في أمرنا وقلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا، نظرنا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتدبرنا، فإذا الأمر بيِّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك في إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم على أمرهم، فبعثوا إليَّ فتًى منهم، فقال: أبا عبدالله، إن قومك قد ظنوا بك الميل إلى محمد، فقلت له: يا ابن أخي، إن كنت تحب أن تعلم ما عندي، فموعدك الظل من حراء، فالتقينا هناك، فقلت: إني أنشدك الله الذي هو ربك ورب من قبلك ومن بعدك، أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: اللهم بل نحن، فقلت: أفنحن أوسع معاشًا وأعظم ملكًا أم فارس والروم؟ قال: بل فارس والروم، قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا، وهم فيها أكثر منا أمرًا، قد وقع في نفسي أن ما يقول محمدٌ من البعث بعد الموت حقٌّ ليُجزى المحسن في الآخرة بإحسانه والمسيء بإساءته، هذا يا بن أخي الذي وقع في نفسي، ولا خير في التمادي في الباطل.
لقد كان هذا الأمر بالتأكيد بعد الخندق، وبعد التخلف عن الحديبية، وبعد الاعتزال في أرضه ومزرعته بالوهط، التي بذل جُلَّ ماله في اقتنائها وتحسينها.
• وروى البيهقي بسنده إلى زيد بن أسلم قال: قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص: لقد عجبت لك في ذهنك وعقلك، كيف لم تكن من المهاجرين الأولين؟ فقال له عمرو: وما أعجبك يا عمر من رجل قلبه بيد غيره لا يستقيم - أو قال: لا يستطيع - التخلص منه إلا إلى ما أراد الذي بيده، فقال عمر: صدقت.
• قال ابن عساكر في تاريخ دمشق: عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو ... يكنى أبا عبدالله، أمه النابغة من بني عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كان يخضب بالسواد، خرج إلى الحبشة إلى النجاشي بعد الأحزاب فأسلم عنده بالحبشة، فأخذه أصحابه بالحبشة فغموه، فأفلت منهم مجردًا ليس عليه قشرة، فأظهر للنجاشي إسلامه، فاسترجع من أصحابه جميع ماله ورده عليه، فقدم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة مهاجرين المدينةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد فبايع، ثم تقدم هو فبايعه، على أن يغفر له ما كان قبله؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الهجرة والإسلام يجُبُّ ما قبله)).
• أخرج أحمد وغيره من حديث عمرو بن العاص يقول: فزع الناس بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، فرأيت سالمًا احتبى سيفه فجلس في المسجد، فلما رأيت ذلك فعلت مثل الذي فعل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني وسالمًا وأتى الناس، فقال: ((أيها الناس ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله؟ ألا فعلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان؟))، وهذا إسناد صحيح، وهذه مرة يشهد له صلى الله عليه وسلم بالإيمان.
• روى أحمد من حديث علقمة بن رمثة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص إلى البحرين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وخرجنا معه، فنعَس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يرحم الله عمرًا، قال: فتذاكرنا كل من اسمه عمرو، قال: فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يرحم الله عمرًا، قال: ثم نعس الثالثة، فاستيقظ، فقال: يرحم الله عمرًا، فقلنا: يا رسول الله، من عمرو هذا؟ قال: عمرو بن العاص، قلنا: وما شأنه؟ قال: كنت إذا ندبت الناس إلى الصدقة، جاء فأجزل منها، فأقول: يا عمرو، أنى لك هذا؟ قال: من عند الله، وصدق عمرو، إن له عند الله خيرًا كثيرًا)).
• روى أحمد عن ابن أبي مليكة، قال طلحة بن عبيدالله: ((لا أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أني سمعته يقول: إن عمرو بن العاص رضي الله عنه من صالحي قريش))، قال وزاد عبدالجبار بن ورد عن ابن أبي مليكة عن طلحة قال: ((نعم أهل البيت عبدالله، وأبو عبدالله، وأم عبدالله)).
• وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ابنا العاص مؤمنان: عمرو، وهشام))، وهذه مرة ثانية يشهد له صلى الله عليه وسلم بالإيمان.
وهشام كان قد سبق عمرًا بالإسلام، وهاجر إلى الحبشة، واستشهد باليرموك، لكن عمرًا رضي الله عنه لنفاسة معدِنِه لحِق بأخيه، وإن كان دائمًا يفضِّل أخاه عليه؛ فعن محمد بن الأسود بن خلف قال: "كنا جلوسًا في الحِجْرِ في أناس من قريش إذ قيل: قدم الليلة عمرو بن العاص، قال: فما أكثرنا أن دخل علينا فمددنا إليه أبصارنا، فطاف ثم صلى في الحجر ركعتين، وقال: أقرصتموني؟ قلنا: ما ذكرناك إلا بخير، ذكرناك وهشام بن العاص فقلنا: أيهما أفضل؟ قال بعضهم: هذا، وقال بعضنا: هشام، قال: أنا أخبركم عن ذلك، أسلمنا وأحببنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وناصحناه، ثم ذكر يوم اليرموك، فقال: أخذت بعمود الفسطاط ثم اغتسلت وتحنطت، ثم تكفنت، فعرضنا أنفسنا على الله عز وجل، فقبِله؛ فهو خير مني؛ يقولها ثلاثًا".
وفي رواية أخرى يتحدث عمرو عن فضائل أخيه فيقول: "أسلم قبلي، وأمة بنت هاشم بن المغيرة وأمي سبية، وكان أحب إلى أبيه مني، وتعرفون فِراسة الوالد".
• وروى أحمد عن عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص)).
• قال عنه الذهبي: "عمرو بن العاص بن وائل، الإمام أبو عبدالله، ويقال أبو محمد السهمي، داهية قريش، ورجل العالم، ومن يُضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم".
• روى مجالد عن الشعبي أنه قال: "دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير".
• عن شعيب بن يعقوب قال: "اجتمع معاوية وعمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: من الناس؟ قال: أنا وأنت ومغيرة وزياد، قال: وكيف ذاك؟ قال: أما أنت فللتأنِّي، وأما أنا فللبديهة، وأما مغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير، قال له معاوية: أما ذانك فقد غابا، فهاتِ قولك أنا للبديهة، وأما أنا فللأناة فهات بديهتك، قال: وتريد ذاك؟ قال: نعم، قال: فأخرج مَن عندك، فأمرهم فخرجوا حتى لم يبقَ في البيت غيرهما، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين أُسارُّك، قال: فأدنى رأسه منه، قال: هذا من ذاك ومن معنا في البيت حتى أسارك.
• ويتجاوز عمرو رضي الله عنه بيئته وقومه العرب لينازل دهاة العالم؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم وجَّهه لفتح فلسطين، وكان فيها داهيتها الرهيب "الأرطبون"، وكان الأرطبون أدهى الروم، وأبعدها غورًا، وأنكاها فعلًا، وقد كان وضع في الرملة جندًا عظيمًا، وبإيلياء جندًا عظيمًا، وكتب عمرو إلى عمرَ بالخبر، فلما جاءه كتاب عمرو، قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فنظروا عما تنفرج.
ونفذ عمرو خدعته بالأرطبون؛ حيث تنكر باسم أحد جنوده رسولًا إليه، وأدرك الأرطبون بدهائه أن الذي بين يديه عمرو، أو من يثق به عمرو، فبيَّت قتله، وتمكَّن عمرو من النجاة من الأرطبون بحيلته العجيبة حين أوهمه أنه سيأتي بعشر رجال مثله، وعندما بلغت الحيلة الأرطبون، قال: خدعني الرجل، هذا أدهى الخلق، فبلغت عمرَ، فقال: غلبه عمرو، لله دَرُّ عمرو.
• ورُوي أن عمرو بن العاص دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو على مائدته جاثيًا على ركبتيه، وأصحابه كلهم على تلك الحال، وليس في الجفنة فضل لأحد يجلس، فسلم عمرو على عمرَ، فردَّ عليه السلام، قال: عمرو بن العاص؟ قال: نعم، فأدخل عمر يده في الثريد فملأها ثريدًا، ثم ناولها عمرو بن العاص، فقال: خذ هذا، فجلس عمرو، وجعل الثريد في يده اليسرى، ويأكل باليمنى، ووفد أهل مصر ينظرون إليه، فلما خرجوا، قال الوفد لعمرو: أي شيء صنعت؟! فقال عمرو: إنه والله لقد علِم أني بما قدمت به من مصر لغنيٌّ عن الثريد الذي ناولني، ولكن أراد أن يختبرني، فلو لم أقبلها للقيت شرًّا.
• قال ابن الجوزي في المنتظم:
وفي هذه السنة – أي: السنة العاشرة - أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بعد رجوعه من الحج لأيام بقين من ذي الحجة إلى جيفر وعبد ابني الجلندي بعمان يدعوهما إلى الإسلام.
وكتب معه كتابًا إليهما وختم الكتاب، قال عمرو: فلما قدمت عمان عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدَّم بالسر والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك، فمكثت أيامًا ببابه، ثم إنه دعاني فدخلت عليه، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففض خاتمه وقرأه، حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه، إلا أني رأيت أخاه أرق منه.
فقال: دعني يومي هذا وارجع إليَّ غدًا، فلما كان الغد رجعت إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلًا ما في يدي، قلت: فإني خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي أصبح فأرسل إليَّ، فدخلت عليه، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخلَّيا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني، فأخذت الصدقة من أغنيائهم فرددتها في فقرائهم، ولم أزَلْ مقيمًا بينهم حتى بلغنا وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
• عن شهر بن حوشب الأشعري، عن رابة؛ رجل من قومه كان قد خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس، قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة بن الجراح في الناس خطيبًا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه.
قال: فطُعِنَ فمات، رحمه الله، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبًا بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذًا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظه، قال: فطُعِنَ ابنه عبدالرحمن بن معاذ فمات، ثم قام فدعا ربه لنفسه فطُعِن في راحته، رحمه الله، ولقد رأيته ينظر إليها، ثم يقبِّل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي فيك شيئًا من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فينا خطيبًا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع إنما يشتعل اشتعال النار فتجبَّلوا منه في الجبال، قال: فقال له أبو واثلة الهذلي: كذبت، والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت شرٌّ من ****ي هذا.
قال: والله ما أرد عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه ثم خرج، وخرج الناس، فتفرقوا عنه ودفعه الله عنهم، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، من رأى عمرًا، فوالله ما كرهه.
لقد كان عمرو رضي الله عنه يتحدث عن جانب غير الجانب الذي يتحدث عنه الأميران العظيمان: أبو عبيدة، ومعاذ بن جبل، وكان يؤرقه الوقوف استسلامًا أمام امتداد الطاعون ونهشه في الأمة، وكان رأيُ عمرَ أمير المؤمنين مواجهة هذا الاستسلام؛ حيث أشار على أبي عبيدة بقوله: "سلام عليك؛ أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضًا عميقة فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة"، ولكن إصابة أبي عبيدة رضي الله عنه حالت دون ذلك، وجاء عمرو رضي الله عنه لينطلق منطلقات أمير المؤمنين نفسها في دعوة الأمة إلى الصعود إلى الجبال هربًا من الطاعون، غير أن أبا وائل رضي الله عنه رأى قول عمرو يختلف عن سابقيه، فأغلظ القول لأميره، ولم يغضب الأمير الحليم العظيم، وقال لأخيه الجندي المتطاول: "والله ما أرد عليك ما تقول"؛ تعظيمًا للصحبة النبوية عنده، ولكن هذا لم يُثْنِهِ عن توجيه أوامره للأمة لصعود الجبال، وصرف الله البلاء عن الأمة بذلك.
من أقوال عمرو رضي الله عنه:
• قال عمرو بن العاص رضي الله عنه- لابنه: "يا بني، احفظ عني ما أوصيك به، إمامُ عدلٍ خيرٌ من مطرٍ وابل، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (المنهاج): "ومن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضًا، ومن ممادح أهل العلم: أنهم يخطِّئون، ولا يكفِّرون، وسبب ذلك: أن أحدهم قد يظن أن ما ليس بكفر كفرًا.
• "لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل".
فالإمام العادل رأس السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهو الذي تقوم به الدول وتحيا به الأمم.
• قال عمرو بن العاص لمعاوية: "يا أمير المؤمنين، لا تكونن لشيءٍ من أمور رعيتك أشد تفقدًا منك لخصاصة الشريف حتى تعمل في سدها، ولطغيان اللئيم حتى تعمل في قمعه، واستوحش من الكريم الجائع ومن اللئيم الشبعان؛ فإن الكريم يصول إذا جاع، واللئيم يصول إذا شبع".
• "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين".
فالحكيم المجرب والقائد المحنك والإداري العبقري هو الذي تهجم عليه جموع الشر من كل جانب، فيعرف أيها يستقبل، وأيها يبعد، يعرف الأولويات الحقيقية للموقف فيقدم الأهم على المهم.
• قيل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: ما العقل؟ قال: "الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان".
فلا عقل لمن لا يعتبر بما مضى، ويفقه التصرف المناسب الجديد على ما سبق، ومن لم تسقه فِراسته في الرجال والأشياء إلى أن تكون أقرب إلى الحقيقة، فليس من العقلاء الكبار بين قومه.
• "موت ألف من العِلْيَةِ، أقل ضررًا من ارتفاع واحد من السفلة".
فالخسارة بموت العظماء والفضلاء، أقل ضررًا من ارتفاع السفلة أهل اللؤم والخسة؛ لأنه يمرغ كرامة والأمة وشرفها بالوحل؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 204 - 207].
• قال عمرو بن العاص: "الرجال ثلاثة: فرجل تام، ونصف رجل، ولا شيء؛ فأما الرجل التام فالذي يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أمرًا لم يمضِه حتى يستشير أهل الرأي والألباب، فإذا وافقوه حمِد الله وأمضى رأيه، فلا يزال ذلك مضيًّا موفقًا.
والنصف رجل الذي يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أمرًا لم يستشر فيه أحدًا، وقال: أي الناس كنت أطيعه أو أترك رأيي لرأيه، فيصيب ويخطئ.
والذي لا شيء الذي لا دين ولا عقل، ولا يستشير فلا يزال ذلك مخطئًا مدبرًا".
قال عمرو: "والله إني لأستشير في الأمر الذي أردته حتى لأستشير خدمي وما عليَّ بعرض عقولهم وأسمع".
• عن علي بن عبدالله بن سفيان قال: قال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما السرور يا أبا عبدالله؟ قال: الغمرات ثم تنجلي.
وقال عمرو بن العاص لجلسائه - وتذاكروا شيئًا من أمر الدنيا - أي شيء رأيتم أحسن؟ فذكروا النساء المرأة الحسنة، والدابة، فقال عمرو: وما شيء أحسن من غمرات ثم تنجلي.
فالسرور عند أقزام الرجال وأنصافهم وأشباههم شيء، وعند عظماء الرجال وصانعي الأمم شيء آخر، فصانعو الأمم هم الذين يخوضون الأهوال ويتحدون الصعاب، ويتنقلون من معركة إلى معركة، ومن هَول إلى هولٍ، حتى يثبتوا وجود أمتهم تحت الشمس، وتكون لها دور الريادة في البشرية.
إن السرور عند عمرو رضي الله عنه "غمرات ثم تنجلي"؛ لأن سرور العظماء بتحقيق أمجاد لأمتهم، لا بالتسكع على أبواب اللذات البهيمية.
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبدُالله اضطرارًا".
• عن سفيان، قال معاوية بن أبي سفيان لعمرو بن العاص: ما ألذ الأشياء؟ قال: يا أمير المؤمنين مر أحداث قريش فليقوموا، فلما قاموا قال: إسقاط المروءة.
يريد أن الرجل إذا لم يهمه مروءته، تلذَّذ وعمل ما يشتهي، ولم يلتفت إلى لوم لائم.
• سأله معاوية: ما بقي من لذة الدنيا تلذه؟ قال: محادثة أهل العلم، وخبر صالح يأتيني من ضيعتي.
• قال معاوية لعمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ قال: من اقتصر على الإيجاز، وسلب الفضول.
قال: فمن أصبر الناس؟ قال: من كان رأيه رادًّا لهواه.
قال: فمن أسخى الناس؟ قال: من بذل دنياه في صلاح دينه.
قال: فمن أشجع الناس؟ قال: من ردَّ جهله بحلمه.
ومن أقواله أيضًا رضي الله عنه:
• استراح من لا عقلَ له.
• يا بني، زَلَّةُ الرجل عظم يُجبر، وزلة اللسان لا تُبقي ولا تذر، وفي رواية: زلة الرجل عظم يجبر وزلة النساء لا تبقي ولا تذر.
• يا بني، مزاحمة الأحمق خير من مصافحته.
• ليس الحليم من يحلم عمن يحلم عنه، ويجاهل من جاهله، إنما الحليم من يحلم على من يجور عليه، ومن يحلم عمن جاهله.
• أربعة لا أمَلُّهم: جليسي ما فهم عني، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملتني، وامرأتي ما أحسنت عشرتي، وفي رواية: وإن الملال من سيئ الأخلاق.
• قال عمرو لمعاوية رضي الله عنهما: "ما بطِنَ قوم إلا فقدوا عقولهم، ما قضيت عزيمة رجل مات بطينًا".
• عن أبي قبيل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: "لا وجع إلا العين، ولا حزن إلا الدين".
• عن علي بن رباح اللخمي، قال عمرو بن العاص: "انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في أعين أخيه القذاة فيعيبها ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها، ويكون في دابته الصَّعَر ويقومها جهده، ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها".
• عن حيان بن أبي حيلة قال: قيل لعمرو بن العاص: ما المروءة؟ فقال: "يصلح الرجل ماله، ويحسن إلى إخوانه".
• عن موسى بن علي قال: سمعت أبي قال: كنت مع عمرو بن العاص بالإسكندرية فانكسف القمر، فأصبحنا مع عمرو، فقال له رجل من القوم: لقد حدثنا شيطان هذه المدينة أن القمر سيًكسف من الليلة، فقال رجل ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم: كذب عدو الله هذا، هم علموا ما في الأرض، فما علمهم ما في السماء؟ قال: فلم يرد عمرو عليه بذلك كثيرًا، ثم قال عمرو: إنما الغيب خمسة، فما سوى ذلك يعلمه قوم، ويجهله آخرون؛ ثم إنه قرأ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34].
• ثلاثة لا أناة فيهم: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميت، وتزويج الكفء.
• وكان رضي الله عنه خارجًا عن سلطان بطنه، فهو يرى الطعام وسيلة للعيش وليست لذة تُقصَد، فعن أبي قيس مولى عمرو بن العاص أن عمرو بن العاص كان يسرد الصوم، وقلما كان يصيب من العشاء أول الليل أكثر ما كان يصيب من السَّحَرِ، قال: وسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن فصلًا بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَّحَر)).
• عن ربيعة بن لقيط قال: سمعت عمرو بن العاص وهو يصلي من الليل وهو يبكي ويقول: "اللهم إنك آتيت عمرًا مالًا، فإن كان أحب إليك أن تسلب عمرًا ماله ولا تعذبه بالنار، فاسلبه ماله، وإنك آتيت عمرًا ولدًا، فإن كان أحب إليك أن تُثكِلَ عمرًا ولده ولا تعذبه بالنار، فأثكله ولده، وإنك آتيت عمرًا سلطانًا، فإن كان أحب إليك أن تنزع منه سلطانه ولا تعذبه بالنار، فانزع منه سلطانه".
ولهذا قال وهب بن منبه رحمه الله: قيام الليل يشرف به الوضيع ويعز به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمنين راحة دون دخول الجنة.
• عن قبيصة بن جابر قال: قد صحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلًا أبين، أو أنصع رأيًا، ولا أكرم جليسًا منه، ولا أشبه سريرةً بعلانية منه.
• قال محمد بن سلام الجمحي: "كان عمرُ إذا رأى الرجل يتلجلج في كلامه، قال: خالق هذا وخالق عمرو بن العاص واحد"؛ فمعنى ذلك أنه في قمة الأمة فصاحة وبلاغة، لم يكن عمرُ رضي الله عنه يجد مثلًا يضربه للفصاحة غيره.
• وقد أخطأ مرة في حق أخيه مسلمة بن مخلد عندما صرعه خصمه الرومي/ فقال لمسلمة: ما بال الرجل المسنة الذي يشبه النساء يتعرض مداخل الرجال؟ ثم هدأ غضبه ورأى كيف أنقذه مسلمة من الموت، فاستحيا عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، فقال عمرو عند ذلك: استغفر لي ما كنت قلت لك، فاستغفر له، وقال عمرو: ما أفحشت قط إلا ثلاث مرار: مرتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا وقد ندِمت، وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك، ووالله إني لأرجو ألَّا أعود إلى الرابعة ما بقيت.
ulv, fk hguhw >> hgHldv hgl[hi] hgl[hi] hguhw
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
4 أعضاء قالوا شكراً لـ رحيل المشاعر على المشاركة المفيدة:
|
|
08-21-2022, 09:22 AM
|
#2
|
رد: عمرو بن العاص .. الأمير المجاهد
جزاك الله خير
يعطيك العافية على ماقدمت
لقلبك السعادة
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
| |