بغداد: «الشرق الأوسط»
أبرز ما تميزت به المنائر البغدادية، عن مثيلاتها في البلاد العربية، هو استعمال الخزف الملون (القاشاني) في تكسية سطوحها، وقد أكسبها هذا المظهر الزخرفي الدائم الملون، وجوداً حياً يتناسب والبيئة المناخية الجافة من ناحية، وينسجم وطبيعة النور المتوهج صيفاً. وهذا يعني أن البنّاء والفنان العراقي، توصلا لإحياء مادة الطين وتهذيبها وإخراجها بشكل ينافس أصلب المواد الطبيعية الجميلة. ويدخل في إطار هذا الفن الجميل عنصر الخط العربي الذي يؤلف الشكل الأمثل لاعتناق الكلمة القرآنية المجيدة.
يقول المهندس المعماري الدكتور خالد السلطاني: هناك لون آخر من ألوان الفن التزييني في العمارة البغدادية، هو فن بناء الآجر المقرنص. وهذا الأسلوب الإنشائي لا يزال يشكل العنصر البارز في العمارة العباسية، كالقصر العباسي، ومئذنة مسجد الخلفاء. ونجد انها تحمل معاني إنشائية لا تقف عند حد الزخرفة التكسيبية الظاهرة، بل تتعداها إلى ما يمكن احتسابه في جملة الابداعات المعمارية التي ظلت تحتفظ بخصائص فنية جمالية. بجانب تحقيقها للوظائف الإنشائية الصرفة. فقد ساعدت المقرنصات على إحداث التدرج من سطح إلى آخر، وهي تحتاج إلى دقة ومهارة وصبر لتحقيق ارفع المستويات الجمالية لمادة الآجر. وان مقارنة سطحية لطرز وأساليب العمارة الخاصة بالمنائر الإسلامية توصلنا إلى حقيقة واضحة، وهي استقلال الأسلوب البغدادي في بناء هذا الرمز الديني، وتميزه عن أي طراز آخر في البلاد العربية. وسنأخذ عدداً من المنائر البغدادية القديمة كمثال لفن العمارة البغدادية.
منارة جامع الخلفاء أوضح المهندس الدكتور السلطاني أن منارة جامع الخلفاء، هي إحدى المآذن التاريخية والمتميزة بعمارتها، وهي الأثر المعماري الوحيد الباقي من دار الخلافة العباسية ومساجدها، وقد بنيت هذه المنارة قبل أكثر من 720 سنة، وهي من الآجر فقط، وتبدو النقوش المحيطة بالسطح الدائري بأشكالها المعينية البسيطة، كما لو كانت قد صففت لتبرز من خلال الظلال المتباينة في الخط الآجري.
وتعتبر هذه المنارة أعلى وأضخم منارة في بغداد آنذاك، وهي الوحيدة التي يمكن الصعود إليها ورؤية بغداد من الأعالي، وكان ارتفاعها الشامخ 35 متراً، يعبر عن جلال الخلافة وهيبتها. وقد بنيت أيام بناء قصر الخلافة (القصر الحسني)، الذي نزل فيه احمد المعتضد باللّه، وهو الخليفة العباسي السادس عشر. وقد بنيت المنارة بعد الجامع الملحق بها بمائة عام، وهدمها المغول على يد هولاكو، هي والجامع وأعيد بناؤها، لكن بعد أن صلى الناس التراويح وخرجوا، سقطت وانهارت، ثم اعيد بناؤها للمرة الأخيرة، وذلك في عهد الوالي العثماني سليمان الكبير.
والمنارة لها بابان وسلّمان، أي أن فيها هيكلين، وذلك بهدف تقويتها خوفا من سقوطها. وسعة قطر المنارة ساعدت على إقامة الحوض على مساند آجرية بسيطة، حيث يتسع الحوض لمائة شخص، ويبلغ محيطها 224 مترا. ولعل تميز هذه المنارة عن بقية المنائر العراقية، هو خلوّها من الحجر (القاشاني) الملون، فقد بنيت من الآجر فقط، وعملت فيها المقرنصات والزخارف والكتابات البارزة، وهي الدليل الواضح على مهارة البناء العراقي في تطويع مادة الآجر واستعماله في الزخرفة والنقوش.
منارة مسجد قمرية أما عن منارة مسجد قمرية، فيقول الشيخ جلال الحنفي، إن منارة هذا المسجد المعروف بمسجد قمرية، تطل على نهر دجلة في الضفة الغربية، وقد شيد هذا الجامع سنة 626هـ الموافق 1828م في عهد الخليفة المستنصر بالله، ولم تبق منه إلا منارته الحالية. ومن خصائص هذه المنارة البغدادية، الاختلاف الواضح في نسب كتلتها الاسطوانية عما هو مألوف من رشاقة المنائر البغدادية ذات الاتجاه العمودي الشامخ.
وأضاف الشيخ الحنفي أن موقع الجامع والمنارة على نهر دجلة، يعتبران نموذجا حيا لطراز المساجد الإسلامية التي بنيت أواخر العصر العباسي. وقال: لعل ظاهرة قصر هذه المنارة بالنسبة لقطر البرج تعود إلى كونها أكثر تخصصاً في أداء مهمة المنارة، وأن شعور المعمار بهذه الحقيقة دعاه إلى أن يجعل منها قاعدة للأذان وليس نصباً فنياً ومعمارياً. وتبدو النقوش المحيطة بالسطح الدائري بأشكالها المعينية البسيطة، كما لو كانت قد حققت لتبرز من خلال الظلال المتباينة في النمط الآجري. ويلاحظ المتأمل أن سعة قطر المنارة ساعدت على إقامة الحوض على مساند آجرية بسيطة تتضاءل بجانبها أهمية المقرنص المألوف في شكل المنائر البغدادية المتأخرة.
زمردة خاتون من الأمثلة المعمارية الفريدة الباقية من العصور العباسية المتأخرة وتناوله بالرسم معظم الرحالة والباحثين ومعظم الدراسات التاريخية لفن العمارة الإسلامية، ما يسمى عند المعماريين البغداديين بـ (الميل)، كقبة الشيخ عمر السهروردي، ويحدثنا عنها الدكتور عماد عبد السلام قائلا: من الجوامع القديمة في بغداد، جامع الشيخ عمر السهروردي العالم المتصوف المتوفى سنة 622هـ. وقد بنيت قبته على الطراز السلجوقي. وتشير الدراسات إلى أن النزوع إلى هذه القباب المخروطية لم يكن دافعه دينياً محضاً، إنما كان دافعه التجاوب مع عوامل الطبيعة والبيئة السائدة في بلاد وادي الرافدين. فندرة الخشب والمعدن، لعبت الدور الأساسي في استنباط أسلوب جديد للبناء يواجه هذا النقص.
انتشر هذا النوع من العمارة في العراق، خلال المدة الواقعة بين النصف الثاني من القرن الخامس الهجري والقرن السابع. والقباب المخروطية أنواع، منها المقرنصة من الداخل والخارج، وهناك المخروط من الداخل والمقرنص من الخارج، أو المقرنص من الخارج وعلى شكل قبة نصف دائرية من الداخل. مثل قبر زمردة خاتون، أو الست زبيدة، حيث ان أول من أطلق عليها هذا الاسم الرحالة الدنماركي كارستن نيور عام 1766، وهي تضم قبر الست زبيدة بنت جعفر المنصور زوجة الرشيد وأم الأمين.
وورد تاريخ البناء عام 266هـ، في بناء قبر السيدة زمردة خاتون زوجة المستضيء باللّه. ويتألف البناء من غرفة مثمنة من الداخل والخارج ويبلغ ارتفاعها 8.30 متر، وجدرانها سميكة تزيد في أسفلها على ثلاثة أمتار، وفيها سلم يقود إلى السطح، وهناك حنايا في البناء الخارجي بعقود مدببة مطولة لا تغور كثيراً، وعددها اثنان في كل ضلع، خالية بواطنها من التكليلات الزخرفية، ويعلوها صف من الأشكال المستطيلة المنخفضة قليلا عن مستوى الجدار، لغرض التزيين.
الروضة الكاظمية هنا تختلف المسألة بشكل واضح، فالجامع مكون من قبتين وأربع مآذن كبيرة وأربع أخرى صغيرة. تضم الروضة الكاظمية قبر الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد، وتقوم على القبرين قبتان ذهبيتان تحف بهما أربع مآذن مطلية بالذهب إلى حد الحوض المصنوع من الآجر والقاشاني، بزخارف جميلة ومقرنصات كبقية المنائر البغدادية، وهي مزينة بأبدع النقوش.
ويحدثنا عنها عبد الوهاب عبد الرزاق من وزارة الأوقاف العراقية قائلا: عندما استولى الشاه اسماعيل الصفوي على العراق سنة 914هـ نقض المشهد والقبة وأعاد بناءهما على وضع بديع، وغشيت الجدران بالذهب الخالص داخلاً وخارجاً، وعلقت النفائس والتحف. وكان ذلك في سادس شهر ربيع الثاني سنة 926هـ، ولما استرد العراق السلطان العادل سليم، جاء بنفسه إلى بغداد وذلك سنة 941هـ، فأمر حينئذ بإكمال تلك العمارة، وأنشأ حولها جامعاً عظيماً تقام فيه الجمع والجماعات. وبنى منارة في الركن الذي بين الشرق والشمال، وهي أول منارة شيدت هناك وتحتها باب الدرج الأسفل.
منارة جامع 14 رمضان ويعتبر هذا الجامع من أفخم وأضخم الجوامع في بغداد الحديثة، أنشئ عام 1940، ثم توقف العمل فيه حتى قيام ثورة 14 يوليو (تموز) 1958، وأكمل بناؤه عام 1959، وهو طراز بنائي خاص. في الركن الشمالي من الرواق تقوم منارة الجامع، وهي منارة ضخمة يبلغ ارتفاعها 40 مترا، ذات حوضين تحيط بهما نقوش جميلة من القاشاني، إضافة إلى أقواس صغيرة كنقوش نجدها فوق الحوض الأول. وألوانها تعتمد على الأزرق والأبيض من القاشاني في نقوش وزخارف رائعة وجميلة قلّ مثيلها.
منارة جامع أم الطبول يحدثنا عبد الرزاق عن جامع أم الطبول قائلا: يقع الجامع في حي أم الطبول بجانب الكرخ من بغداد، وهو جامع واسع وضخم وتحيط به الحدائق، بني على طراز جامع صلاح الدين في القاهرة. ويتزين بالرخام الأبيض. وتقوم فوق الباب الرئيسي للحرم منارتان طويلتان ذات طراز بديع في البناء، وهو طراز مصري، طول كل منارة 40 مترا، بحوضين، وتتمتع بنقوش من المرمر والحجر الجميل، لكنها ذات طابع مصري.
منارة جامع بنية وهذا الجامع من الجوامع الحديثة التي بنيت في بغداد، ويقع في جانب الكرخ من بغداد ويبلغ طول منارة هذا الجامع 55 مترا، ولها حوض يرتفع عن الأرض 40 مترا، والمنارة منقوشة بالقاشاني باللونين الأبيض والأزرق، والحوض يمتاز بشكله الغريب غير المألوف، وإضافة إلى وجود النقوش القاشانية هناك الكتابات الكوفية والنقوش المغربية البديعة.
هذه المنائر المتميزة في بغداد، هي جزء يسير جدا من مدينة المآذن والقباب، التي تزخر بكل ما هو رائع في الفن المعماري العربي ـ الإسلامي.