نتوقع في أذهاننا فروقاً أكبر من الحقيقة في السعادة بين أهل الثراء الفاحش والفقراء، ونتوقع في أذهاننا فروقاً أكبر من الحقيقة في السعادة بين الأصحاء والمرضى، فالفروق التي في أذهاننا بينهما قد لا تكون صحيحة كما يقول دان جلبرت.
لم أقل إن المال والصحة لا يؤثران على السعادة، ولا إنهما غير مهمّين لتحقيقها، لكنني أقول إنهما -وحدهما- غير قادرين على جلب السعادة، ولا تقاس السعادة بنسبة توفرهما لدى المرء، فكلنا يعرف نماذج عديدة لأغنياء أصحاء، تلازمهم الكآبة، وتعلوهم التعاسة، ولا يعرفون للحياة طعماً، ولم تفلح كل تلك المتع المتنوعة في تحقيق السعادة لهم، كما أننا نعرف في المقابل أقواماً لا يجدون سوى الكفاف من العيش، وربما أصابهم المرض أو الإعاقة سنين طويلة، ومع ذلك فالبسمة لا تفارقهم، والسعادة لا تغادرهم، تجلس إليهم فتشعر كأن الدنيا قد حيزت لهم من تهلل وجوههم بالابتهاج.
ولكي يكون هذا الحديث أكثر دقة ومنطقية، فإنني أسوق كلاماً شهيراً لأبي العباس ابن تيمية رحمه الله، كلاماً طالما رددناه معجبين به، لكننا اليوم نتحدث عن تطبيقه في واقعنا، وفي موضوعنا، يقول رحمه الله :
( ما يفعل أعدائي بي ؟
أنا جنتي وبستاني في صدري ..
أين ما رحت فهي معي ..
أنا حبسي خلوة ..
ونفيي سياحة ..
وقتلي شهادة )
وحين يقول ابن تيمية إن سعادته وجنته في صدره، فهو لا يمزح ولا يكذب بطبيعة الحال.
حين يقول بأن أعداءه لا يمكنهم سلب السعادة من قلبه فهو لا يقول سوى الحقيقة التي يعتقدها.
السعادة – يا قوم – ليست ظروفاً خارجية، تصنع لك السعادة أو تسلبها، ولكنها مشاعر وجدانية، وتحكّم داخلي، وإعادة رؤية للمشاهد والظروف المختلفة من جهات أخرى.
وها هو ابن تيمية يعتبر (السجن وحبس الحرية) والتي تعتبر أحد أكبر منغصات السعادة في أذهان الكثيرين، يعتبرها – من وجهة نظره- سبباً من أسباب السعادةّ، فالسجن عنده “خلوة”، خلوة بربه، وخلوة مع نفسه، ووقت مجاني للانقطاع عن المشغلات والمكدرات اليومية التي تقتحم عليه عبادته لربه. وتأمله في الكون والحياة، خلوة يسّرها الله، ولو أرادها طواعية لما وافقته الأعمال والتكاليف المختلفة.
وهو – أي ابن تيمية- يرى كذلك أن (الطرد والإبعاد من الوطن)، وتركه يهيم في أنحاء الأرض، ومغادرة مسقط رأسه بالإكراه، يعتبرها فرصة سانحة للسياحة في البلدان والأقاليم، ووقتاً مناسباً للتفكر في آيات الله المنثورة وعجائب صنعه، والتي يبذل الناس الغالي والرخيص ليحصلوها.
وهو يرى أن (القتل)، الذي هو أقصى عقوبة يمكن أن تنفذ بحق الإنسان، وهو كافة الخلق من أسباب التنغيص الكبرى، ومدمرات السعادة، وأعظم كوابيس الحياة، ليس لمن تقرر تنفيذ القتل بحقه فحسب، بل لكل أهله ومعارفه ورفاقه، بل قد يلازمهم الأسى لذلك سنين عدداً، وربما أورثهم هذا الحزن مرضاً مقعداً أو موتاً مفنياً، ومع ذلك يرى ابن تيمية أن القتل في حالته هذه أقصى الأماني، وغاية المأمول، فهو “شهادة” تجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، ويحقق له القتل منزلة لم يكن ليحصل عليها لو لم يُقتل.
إن مفهوم السعادة لدى هذا الإمام الكبير مختلف عن مفهوم السعادة السائد في مجتمع اليوم، فهو يرى أن مصدر السعادة، ومنبعها، وأصلها، داخل النفس، فجنته وسعادته وسروره (في صدره)، فالجنة الدنيوية في مفهومه ليست مساحات خضراء واسعة من الأرض، وليست مراكب فارهة، ولا قصوراً فخمة، ولا أطعمة متنوعة، ولا أجواء منعشة، ولا زوجات حسناوات، ولا مالاً كثيراً متوافراً، فكل هذه الأشياء لا تشكل لديه سبباً حقيقياً، فقد رأى الإمام ورأيتم من أتيحت له هذه كلها أو جلها، ومع ذلك فالأسى لا يفارقه، والحزن يرافقه حيثما حلّ وارتحل.
إذا استشعرنا أن “السعادة” تكمن في الداخل، وأن هذه السعادة الداخلية يمكنها أن تجعل المرء مبتهجاً وفرحاً وجذلاناً حتى بذهاب بعض النعم وزوالها الدائم أو المؤقت، وأن هذه السعادة الداخلية تمنعه من أن يكون حزيناً متكدرا مكلوماً بفقدها، إذا استشعرنا ذلك فإن من المهم حينها أن نعيد تعريف السعادة في أذهاننا من جديد، وأن ندرك – حقاً – إننا بتغيير تصوراتنا، واستشعار الأجر، وتقبل البلاء، والرضا بالقضاء، والتسليم للمقادير، يمكننا أن نكون سعداء بل في غاية السعادة مهما كانت الظروف والأحوال.
ولو تأملت – رعاك الله – في حياتك لوجدت أنك مهما كانت ظروفك تتقلب في النعم، وتبتلى لترفع درجاتك، ولتكفّر سيئاتك، وأنك مهما كنت في ابتلاء فإن كثيراً من الخلق أقصى أمانيهم أن يكون لديهم بعض ما لديك، وجزء مما وهبك الله. فأعد التفكّر في النعم، وابتهج لأن الله منحك إياها، واحمد الله عليها، فبالحمد تستجلب النعم وتثبت.
ولهذا اعتُبرت القناعة (كنزٌ لا يفنى)! لماذا؟
لأنها ثابتة باقية بينما الأموال متحركة وذاهبة.
وختاماً :
تذكّر أن سعادتك دوماً وأبداً تنبع من داخلك ومن قناعاتك وتصوراتك الداخلية أكثر من كونها نابعة من المؤثرات الخارجية، فالتغيير حينها يبدأ من الداخل.
أدام الله عليكم السعادة، ووهبكم شكر المنعم المتفضل
.
محمد بن سعد العوشن