آيات وعظات " قهر الرجال "
الشيخ صالح بن عواد المغامسي
العظة الثانية : " قهر الرجال "
أخرج الشيخان فيصحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول فيدعائه ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك منالجبن والبخل وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال)
وأخرج أبو داوود في سننه منحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماًورأى رجل من الأنصار يقال له أبو أمامه فقال له – أي النبي صلى الله عليه وسلم – قاللأبي أمامه : ( مالي أراك جالس في المسجد في غير وقت صلاة ) فقال : يا رسول الله همٌنزل بي وديون لزمتني ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( ألا أعلمك كلمات إن قلتها أذهب اللههمّك ) قال قلت : بلى يا رسول الله قال : ( قل إذا أصبحت وإذا أمسيت ( اللهم إني أعوذ بكمن الهّم والغم ومن العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدينوقهر الرجال(
من الحديثين يظهر أنه صلى الله عليه وسلم تعوذ وأمر بالتعوذ منقهر الرجال .
فما قهر الرجال ؟
قهر الرجال في قول كثير من العلماء : ما يصيب الإنسان من قهر وهم وغمبغلبة انتصر عليه بها وهو يعلم أنه على الحق وخصمه على الباطل .
وأردت بهذه العظة أنأذكر إخواني أن الحياة الدنيا ميدان تنافس فربما غلبت المطامع الدنيوية على العبدفكان سبباً في قهر أخوانه حتى يصل إلى مبتغاه وأمله فيجعل الطريق إلى مبتغاه وأملهأن يمضي على أكتاف الناس وهذا خلاف اليقين بالله جل وعلا والإيمان بقضائه وقدرهوفيه ما فيه من معارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم .
وكنت كلما قرأت أو سمعت هذينالحديثين تذكرت إمام النحاة سيبويه رحمه الله تعالى .
سيبويه عليه من الله الرحمةوالغفران فارسي الأصل نشأ في البصرة وكان أول حياته يطلب الحديث فجلس إلى شيخيقال له حماد بن سند وأخذ يقرأ فمر على حديث بصرف النظر عن سند صحته فقال سيبويهوهو يقرأ : " أنه ليس من أصحابي أحد إلا ولو شئت لرددت عليه ليس أبو الدرداء" فأجرىسيبويه وهو يومئذ يطلب الحديث أجرى ما بعد ليس على عمل ليس الأصلي وهو رفع ما بعدهافقال له شيخه : أخطأت يا سيبويه أنما هو استثناء كان ينبغي أن تقول : " ليس أبا الدرداء" . فأطبق الكتاب وقال : " لأطلبن علماً لا ينحلني معه أحد " .
فلزم شيوخ الباديةوعكف عند الخليل ابن أحمد الفرهيدي يطلب منه العلم وأخذ عن غيره من الأقران كيونسوعيسى بن عمر وغيرهما من أئمة نحاة البصرة آنذاك حتى علا شأنه وهو صغير و تفوق علىكثير من طلاب العلم حتى أصبح وهو في العقد الثالث من عمره إمام البصرة لا ينازعه فيإمامة النحو أحد وقبل أن يصل إلى مأساته في تلك الفترة ألف كتابه [ الكتاب ] ولميخرجه للناس رغم أن كتابه المسمى الموصوف بالكتاب في النحو ألفه سيبويه في أوائلالقرن الثاني تقريباً وإلى اليوم لم يألف أحد في النحو كتاباً أكمل ولا أعظم منكتاب سيبويه رغم عشرات القرون مما يبين بجلاء أن للرجل قدم سبق واضحة وعلو كعب فيعلم النحو وسيأتي الحديث عن الكتاب بعد ذلك.
ثم لما سمع بغداد وكانتيومئذ عاصمة الخلافة وكان أقرانه من الكوفيين كالكسائي وغيره يذهبون إلى بغدادفينالون حظوة الأمراء وأعطياتهم وشرف المنازل أراد أن يسعى في مرحلة جديدة من حياته،فانتقل من البصرة إلى بغداد ونزل عند يحي بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد ثمأراد أن يخوض مرحلة جديدة من حياته فلما دخل على يحي أقام يحي مناظرة بينه وبينالكسائي زعيم نحاة الكوفة وكانت اللعبة السياسة آنذاك بين البصرة والكوفة في أوجهالأن البصرة كانت في السابق حليفة لبني أمية فلما تغير الأمر السياسي أضحت قلوب بنيالعباس مع أهل الكوفة أكثر منها مع أهل البصرة ، أقيمت المناظرة وكانت في حال الاسمالواقع بعد إذا الفجائية فكان سيبويه يرى أن الرفع حال واحدة لا تقبل الوجهين وكانالكسائي يرى جواز الوجهين الرفع مع النصب فقال لهما يحي : " اختلفتما و أنتما رئيسابلديكما فمن يحكم بينكما " فقال الكسائي : " هذه جموع الأعراب ببابك قادمة من كل صقعفجعلها تحكم بيننا " – و كانت الأعراب يومئذ لم تخالطها العجمى - يحكمون بين النحاةلأنهم على السليقة وكان الكسائي صاحب حظوة عند هارون الرشيد فأراد الأعراب أنيماروا ويجاملوا الكسائي على سيبويه رغبة في أن الكسائي له منزلة عند الخليفة أعظمرغبة في المال والجاه والأعطيات فلما قال الكسائي ما عنده وقال سيبويه ما عنده وسيبويهيعلم يقيناً أنه على الحق قالت الأعراب ممن حضروا واحتكموا إليهم : " إن الحق معالكسائي " فلما قيلت هذه الكلمة أنقبض خاطره وكُسر ظهره وما جاء من أجله ، فزادهالكسائي نكالاً أن قال ليحي : " أيها الأمير أصلحك الله إن الرجل قدم يرجوا أعطياتكفهلا جبرته " . فأعطى يحي سيبويه بعض من المال يريد أن يجبر به كسره فخرج رحمه اللهمن عنده وقد أصابه من الغم والهم وقهر الرجال ما أصابه يتوارى من الناس من سواءما لحق به حتى أنه لم يستطع أن يدخل البصرة بعدئذ رغم أنه رحمه الله كان إذا خرجلصلاة الفجر وهو في الثانية والثلاثين من عمره إذا خرج لصلاة الفجر سحراً يجد طلابالعلم يزدحمون على بابه يسألونه وهو يجيب كأنه يغرف من بحر فذهب هذا المجد كله وهوقد جاء ليؤمن مجداً جديداً وعملاً خالداً فذهب إلى قرية من قرى فارس ومر في طريقهعلى تلميذه الأخفش فبثه شكوه وقال له بنجواه وأخبره بالقصة ولم يستطع بدنه أن يتحملما أصابه من قهر وهم المرض ولم يلبث شيئاً يسيراً حتى توفي وعندما أحتضر وشعر بدنوالأجل تذكر بيتين من الشعر تناسب حاله وكونه قد ذهب يريد أمراً فرجع بأخر فقال رحمهالله :
يأمل الدنيا لتـبـقــى له *** فوافى المنية دون الأمل
حثيثاً يُرويأصول النخيل *** فعاش النخيل ومات الرجل
ثم أسلم نفسه وفاضت روحه إلى باريهارحمه الله ..
هذا الرجل الذي مات بهذا القهرترك للناس كما قلت كتابه [ الكتاب ] وهذا الكتاب لا يعرف بعد كتاب لله جل وعلا كتابشرحه العلماء أو حاموا حوله أو طافوا ببابه ككتاب سيبويه وترجم بعصرنا هذا إلى أكثرلغات العالم . وجامعة هارفرد الأمريكية وهي أرقى جامعات العالم أكاديمياًتحتفظ بنسخ منه وتضع شهادات أكاديمية وترقيات علمية فيمن يستطيع أن يبحث في كتابسيبويه بل أن نحوي أمريكياً شهيراً أسمه تشومسكي ظهر في هذا العصر كتب في أولحياته في السياسة ثم تفرغ للنحو وأخرج للجامعات العالم ما يسمى عالمياً [ بالنحوالتحويلي ] ونظرية تشومسكي في النحو التحويلي سارت بها الركبان في هذا العصر وهوحي يرزق الآن في جامعات العالم ما قاله تشومسكي في النحو التحويلي وُجد له أصل فيكتاب سيبويه فقد لفت إليه سيبويه من قبل ألف سنة كما بينا .
كما أنه رحمه الله تعالىذكر لنا طريقة جميلة في التأدب مع المشائخ و العلماء فقد كان شيخه الأول الخليل بنأحمد فكان حتى يميز الخليل شيخه الأكبر والأول عن غيره يقول رحمه الله في الكتاب: " زعم عيسى بن عمر وحدثني أبو الخطاب وأخبرني يونس "فيذكر أسماء المشائخ فإذا قال: "حدثني " ويذكر الخبر دون أن يقول الفاعل فإنما يقصد في المقال الأول شيخه الخليل بنأحمد فتأدب معه يرى أن شيخه هذا أجل من أن يذكر وأكبر من أن يسطر أسمه إلا في بعضمواطن في الكتاب لا تخفى لمن أطلع عليه .
ثم أنه ضرب مثلاً في قوة النفوذ العلميللكتاب : الكتاب الحق الذي تألفه إذا خرج للناس مادته العلمية تقنع الناس لا ما فيه منتقرير العلماء وأفكار الفضلاء فإن الله جل وعلا لما أنزل كتابه قال في أول صفحاتهبعد الفاتحة (( آلم * ذلك الكتاب )) أي دونكم الكتاب فاقرءوه والله جل وعلا يعلم أنهخالق ولا يقاس به أحد من خلقه لكن هذا منهج لأن الإنسان إذا أراد أن يؤلف يعنى بمادةالكتاب ولا يعنى بتقديم غيره له حتى يكون الكتاب أوقع في النفوس وأملأ لليد ويحتف بهالناس فسيبويه لم يجعل لكتابه لا خطبة ولا مقدمة ولا خاتمة وقد يقال أنه مات قبل أنيخرج كتابه لكن أين كان الأمر كان كتابه فريد فيعصره وكما قلت ما حصل له دليل منأدلة قهر الرجال .
على أنه ينبغي أن يعلم كذلك كما قلت في الأول أن ميدان التنافسالدنيوي الذي يدفع الإنسان بتصرفات لا يحب أن يعامل بها كأن يريد أن يصل قبل أن يكتبله الوصول وأعلم أُخيّ أن كنت طالب علم أو عالم أو مربي أن ما كتبه الله لك لنيمنعك منه أحد وما لم يكتبه الله جل وعلا لك لن يصل إليك أبداً ولو اجتمع أهل الأرضعلى أن يوصلوه إليك .
فالحق الذي لا فريه فيه أن التأدب مع الأئمة الأعلام والأكابرالماضين إذا ألفت كتيباً فمن قرأ مقدمة الشيخ المختار الوالد رحمة الله في شرح سننالنسائي الصغرى وكيف ذكر أنه دفعه إلى التأليف أن الناس لم يحتفوا بسنن النسائيوإلا فهو يرى نفسه على علمه وفضله أقل من أن يكتب أو يؤلف مؤلفاً وذكر أبيات جميلةفي هذا تنسب إلى أحد المالكية :
متى تصل العطاش إلى ارتواء ××× إذا استقت البحار منالركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد ××× إذا جلس الأكـــــابر في الزوايا
وإنّ ترفع الوضعاء يــــــــوماً ××× على الرفعاء من أقسى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي ××× فــقد طابت منادمـــــــة المنايا
هذا على وجه الإجمال ثاني العظات والوقفات مع قهر الرجال .
وفي الأسبوع القادم بإذن الله سنقف مع العظة الثالثة (( الصديقة مريم )) .
علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا ، وجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .