أنشأ الأدارسة بالمغرب مدنا عديدة، من أهمها المدن التالية:
1- مدينة فاس
تقع قرب وادي فاس، في موقع يجعلها قريبة من الريف والمغرب الشرقي والمحيط الأطلسي، وقد سبق اختطاط فاس الحالية مشروعان، حاول إدريس الثاني (177 - 213هـ / 793 - 828م) انجازهما على التوالي، أولهما بناء المدينة عند سفح جبل زلغ حيث حطم السيل المباني والمزارع، ثم بناؤها عند وادي سبو حيث لقيت نفس المصير.
وهكذا تم بناء المدينة للمرة الثالثة بصفة نهائية، بعد أن وقع اختيار عمير الأودي على مكانها الحالي، الذي لم يكن سوى غيضة تكتنفها الأشجار والمزروعات، ويقطن بها مجوس البربر، وقد حصل الاتفاق على تنازلهم عن هذه الغيضة مقابل ستة آلاف درهم. وقد شك المؤرخ الفرنسي هنري طيراس ومؤرخون آخرون، فيما إذا كان بناء عدوتي فاس كلتيهما في عهد إدريس الثاني، ويرجعون بناء إحدهما إلى إدريس الأول.
وعلى أية حال، تمت عمارة المدينة في النصف الأول من القرن الثاني، بواسطة الأسر الوافدة من الأندلس في عهد الحكم الربضي، وقد ظلت العدوتان مدة طويلة منفصلين عن بعضهما بأسوار ضخمة، حتى حدث عدة مرات أن تنازلت إحدى العدوتين أمام هجمات الفاتحين، بينما يتحصن سكان العدوة الأخرى في مدينتهم لمدة شهور عديدة، كما وقع في عهد
الأدارسة المتأخرين وفي أيام الزناتيين.
وفي عهد إدريس الثاني، وهو باني فاس على أكثر الروايات سنة 193هـ تم بناء أول جامع لخطبة وهو جامع الأشياخ، كما بنى مسجد الشرفاء، وأنشئت الفنادق للتجار وحمامات ومرافق مختلفة خلال حكم الأدارسة، وأدخلت إصلاحات كثيرة على فاس في أيام الدول المتعاقبة.
2- البصرة
بنيت مدينة البصرة في أواسط القرن الثالث الهجري، وأول من تولاها من
الأدارسة إبراهيم بن القاسم بن إدريس وتقع بين أصيلا والعرائش بعيدة عن البحر، وكانت تعرف في أول الأمر ببصرة الكتان، وقد تخربت في وقت مبكر.
3- جراوة
تقع في الشمال الشرقي من المغرب، بناها إدريس بن محمد بن سليمان أو ولده عيسى الملقب بأبي العيش، وقد حدد ابن غازي بناءها في عهد أبي العيش هذا سنة 237هـ، وكانت تحتوي على جامع من خمس بلاطات، وعلى خمسة حمامات، وكان لها أربعة أبواب ويسكن حولها بنو يزناسن، وزواغة، وزناتة، كما كان يقع بقربها قرى مدغرة على البحر المتوسط.
4- قلعة حجر النسر
بنيت في الجنوب الشرقي من البصرة سنة 317هـ على يد إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس، وفيها حوصر أدارسة الريف في عهد موسى بن أبي العافية، وقد دافعوا عنها باستماتة، ومن المرجح أن هذه القلعة تقع قريبا من مضارب قبيلة سوماتة، بدليل أنقاضها التي لا تزال موجودة.
5- جامع وجامعة القرويين
أما أهم أثر تركه
الأدارسة على الإطلاق، فهو جامع وجامعة القرويين، التي ينسب تأسيسها إلى فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهري وهي من العرب المهاجرين من القيروان، وقد بنت القرويين من المال الذي ورثته عن والدها. وكان الشروع في
البناء سنة 245هـ. أما مواد
البناء نفسها فقد استخرجت من عين المكان، وحتى الماء استنبط من بئر كانت هناك.
وكان مسجد القرويين يتألف من 4 أساكيب
2 بلاطة، وبلغت مساحة المسجد 1248
، ثم زيد فيه لأول في عهد عبد الناصر بواسطة الأمير أحمد الزياني عامله على فاس، فصار على 13 إسكوبا
8 بلاطة، بينما بلغت مساحته 4 آلاف
، وفي عهد يوسف بن تاشفين أصبح يشمل على 16 إسكوبا
1 بلاطة بينما بلغت مساحته 5846 مربع.
وفي أيام عبد الرحمن الناصر بنيت الصومعة الحالية، وثم الفراغ من بنائها سنة 345هـ على يد أحمد بن أبي بكر الزياني، وكان بناؤها من الحجر المنحوت، حتى في تبيضها منذ سنة 688هـ، وفي أيام يوسف بن عبد الحق بينت حجرة المؤذنين.
وتعتبر القرويين أقدم جامعة في العالم، أو من أقدم الجامعات على الأقل، وكان المسؤول عن تسييرها قديما قاضي المدينة، وكانت شؤون المسجد والتدريس تكون جزءا من اختصاصات القضاة، وكانت المواد الدراسية ترتبط بالدين والغة العربية، من فقه وتفسير وأدب الخ.
وعرفت هذه الجامعة نشاطا عظيما في مختلف فروع المعرفة أيام الموحدين والمرينيين ثم الإشراف، وعاشت القرويين منذ البداية على نظام الوقف الذي اتسعت موارده بعد المرابطين خاصة، أي بعد أن سادت الروح الدينية والعلمية في أوساط أهل فاس خاصة.
وعلى العموم فقد كان العلماء متطوعين يلقون دروسهم بينما يشتغلون خارج القرويين بوظائف معينة كالعدالة والكتابة والقضاء، وفي عهد المرينيين بنيت مدارس كثيرة لإيواء الطلاب، وجهزت بخزائن تعين الطلاب على تحصيل العلم، كما أسست خزانة عظيمة في مسجد القرويين أيام بني مرين.
وفي أيام العلويين بدأ إدخال النظام على القرويين بتقرير الكتب والمواد الدراسية أيام السلطان محمد بن عبد الله، كما أنشأت المطبعة الحجرية التي ساعدت كثيرا على نشر الكتب في مختلف العلوم والفنون، وفي أيام السلطان محمد بن عبد الرحمن.
أما في العصر الحاضر، فقد أدخل في سنة 1931م إصلاح جديد على القرويين بتقسيم مراحل الدراسة فيها إلى ابتدائي وثانوي ونهائي، في مقابل تجريدها من كل صبغة علمية، فلم يعد يدرس بها سوى مواد الفقه واللغة، حتى إذا كانت سنة 1942م عين أول مدير للقرويين درس على الطريقة العصرية إلى جانب الطريقة التقليدية، وهو الأستاذ محمد الفاسي الذي وضع نظاما دقيقا لامتحانات والمواد والكتب المقررة، وإن ظل الإصلاح شكليا لا جوهريا.
وفي سنة 1957م وضعت الجنة الملكية لإصلاح التعليم برنامجا يبني على توحيد مواد الدراسة ومناهجها في مختلف معاهد المغرب، ولكن لم يدخل هذا التوحيد في ملحة التطبيق إلا بعد إنشاء المجلس لإصلاح التعليم، فأصبح التخصص يبدأ في المرحلة الثانية من السلك الثانوي، ومنذ سنة 1931م والصراع قائم بين المحافظين من علماء الدين، والمسؤولين عن شؤون التعليم من متطرفين ومعتدلين، ونقطة الخلاف تنحصر حول إعطاء أهمية أكثر للعلوم الدينية، أو مسايرة القرويين لكل مناهج التعليم العصري.
وقد تركت جميع الدول التي تعاقبت على عرش المغرب منذ
الأدارسة آثارا متعددة في القرويين، من بينها في عهد المرابطين، المنبر الرائع الذي صنع في أيام المرابطين وباب الخلفاء الذي صنع في نفس الفترة سنة 531هـ، ويبلغ طوله حوالي أربعة أمتار، ومن آثار الموحدين الثريا العظيمة التي أبدع الصناع في زخرفتها، أما في عهد بني مرين، فقد صنعت ساعة مائية عظيمة، كما بنيت الخلوة العليا أيام السلطان أبي فارس، وفي عهد السعديين بنيت القبة الغربية ذات السواري الثمان، وفي أيام العلويين وقع ترميم شامل لمباني القرويين، وبنيت مكاتب الإدارة وقاعة كبيرة لمطالعة.