قصص - روآيات - حكايات ▪● ┘¬»[ روايات قصيرة | روايات تراثية | قصص حزينه |قصص مضحكة : تنحصُر هِنآ |
|
|
11-22-2017, 10:05 PM
|
|
|
|
|
رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
قرة العين في خريدة لبنان 1
ُ في ذات صباح من أبهى أيام حزيران ظهرت عربة يجرها ثلاثة من الخيل الضوامر ا على الطريق املمتدة من بريوت إلى دمشق، وكانت الخيل تلهث إعياءً وقد تصبَّبت عرقً راغيً ٍ ا، وسنابكها تنشب في الأرض فتثري الغبار املتلبد، بينما الحوذي ينشطها بصوت ٍ شبه الطعطعة، والكلاب تنبحها من دكان ٍ منفردة أو بيت ِ معتزل، والقنابر تنفر من بني يُ َّ ، هذا والشمس عند شروقها أرسلت أشعتها إلى العربة، السنابل وتحلِّ ُق في الهواء صافرةً ٍ وراءها بحركات غريبة بني الأشجار العارية، ِّ فرسمت لها من الظل صورةً تتابعها، صافرةً والشجريات الرميمة التي تلوح حينًا بعد حني على شفا الطريق.
مضى على الخيل نحو الأربع ساعات بعد مزايلتها بريوت، راقيةً في معارج الجبل، َ ذبي «مشية ثقيلة»، أو تراوح بني الخبب ُ تطوي الر َ بى بني الخيْ َ زلي «مشية متثاقلة» والهيْ ٌّ والتقريب «مشي َّ سريع»، لا تقف إلا ُّ لحظة ريثما تتنفس الص َّ عداء حتى أداها املسري إلى ٍخان ٍ منفرد ٌّ شرقي الطريق، فإذا بالسائق وهو زنجي لامع السواد أوقفها وانحدر إلى ً الأرض أسرع من البرق وفتح باب العربة قائلا: وصلنا يا سيدي هذا هو الخان.
فسمع ٌ من الداخل صوت لا تحد لهجته مكرر َّ ا «وصلنا»، ثم خرج رجل طويل القامة
وفي يساره خريطة حوت — لا شك َّ — بعض لوازم السفر، فمد ُ السائق يده ُ ليحملها عنه ُ من الذهب ناوله ِّ إياها، فبرقت عينا الحوذي ًسرورا فامتنع هذا، وأخذ من جيبه قطعةً ً وأكثر من علامات الشكر وعبارات الامتنان، عارض َّ ا نفسه لكل خدمة، وملا لم يؤانس ً من الرجل إقبالا عليه عمد إلى خيله يكشط عنها رغوة العرق والغبار املتلبد وهو يدعوها بألطف الأسماء، ويخاطبها بأرق العبارات ريثما عاد إليها الرمق، فبادر إلى بئر هناك غربي
v,hdm : rvm hgudk td ovd]m gfkhk>>L rv,f hgu'hx hgudk hgu'hx [vdpm v,hdm
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ MS HMS على المشاركة المفيدة:
|
|
11-22-2017, 10:06 PM
|
#2
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
الطريق وجاء بماء صبَُّه ُ على مشافرها ودفقه بني قوائمها كل ذلك في لحظة، ثم استوى ِ على كرسيه وفرقع بسوطه إيذانً ً ا بالرحيل، والتفت إلى املسافر قائلا: «أنا راجع سيدي إلى ُ بريوت، مر خدمةً»، فكان الجواب: «مع السلامة»، فضغط بالعنان على الخيل يُمنةً فمالت وزجرها، فرسمت نصف دائرة تستقبل بوجهها بريوت، وألهبها ضربًا بالسوط فطارت ْ تنهب الأرض منحدرة في الوهاد إلى أن َ توارت وراء أكمة، فلم يبق منها أثر إلا زوبعة َّ سمع منها إلا ُّ فرقعة السوط ودوي َّ العربة رددهما صدى غبار ثارت، ثم ركدت ولم يعد يُ الروابي حينًا وخمد.
َّ أما املسافر فمشى نحو دكان ُ هناك تلاصق الخان، وكان الدكاني بصر بالعربة ورآه ُ إلى أنه ُ يصف الأواني ويهيئُ ما يلزم، وبادر ً نازلا منها، فأبدى حركات مختلفة إشارةً ِ ف إليه َّ ، وحمل عنه الخريطة وقدم له كرسيٍّا قرب احتفاء بالقادم إلى لقائه، وأكثر من التزلُّ ْ طاولة قد أكل الدهر عليها وشرب، وسأله أن َّ يأمر بما يرغب وعد ُله قبل رجع النفس من املأكول والمشروب ألوانًا وأصنافًا، فطلب الرجل شرابً ً ا مبردا وجلس يتأمل ما حواليه.
وكان طويل القامة — كما سبق القول — يُ ً ناهز الخمسني عام َّ ا، وربما ظن الراني ُ أنه َّ جاوز الستني لو لم يدل نشاطه وبرق عينيه، وابتسام ثغره أن ُ قلبه أنضر شبابًا من ِ وجهه ُ ، على أنه َّ لعب البياض بلم َّ ته وشاربه الكثيف، وتجع ُ د جبينه ُ ووجنتاه، وبدت على ُمحيَّاه أمارات عياء لا يمكن وصفها، وهي آثار ما قاساه من الأكدار واملشاق في صباه ُ بحلول الشيخوخة قبل أوانها، بيد أنه ُّ قوي ُ البنية، راسخ ِ القدم، وقد كان على رأسه ُمنبئةً َّ قبعة بيضاء يلبسها الأوروبيون في البلاد الحار َّ ة، أما ثيابُه فكانت صدرية وسترة من ِني «طماقات» من الجلد الرمادي؛ حتى الجوخ الأسمر، وبنطلون من الكتَّان الأبيض، ورانَ َّ لا يشك من رأى زيَُّه ُ أنه َّجو ٌ ال إنكليزي.
فجاءه ُ الشراب بعد أن أكثر الدكاني وولدان له من الحركة ذهابًا وإيابًا، وهو يراقب الجميع بانعطاف ولسان حاله يقول: أليس فيكم من يعرفني؟ أليس من يخبرني عنها؟ َّومل ْ ا لم يجد من يدرك معناه سعى في مبادلة الحديث فطلب نارجيلة، فما لبث أن أقبل ُّ الدكاني ً حاملا نارجيلةً من الزجاج امللون، لها قلب طويل من الخشب المرصع بعرق ُّ اللؤلؤ، فوقه رأس من النحاس الأصفر اللامع يلتف عليها متلويٍّا، كالأفعى ماربيش أحمر في طرفه حلَ َّ مة من الكهرباء، فوضعها على الأرض، وحل َّ املاربيش وثنى طرفه وقد ُمه بكل ً احترام للضيف قائلا: «هاك سيدي أركيلة لا يوجد مثلها في البلاد»، وكانت تلك أفخر
|
|
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ MS HMS على المشاركة المفيدة:
|
|
11-22-2017, 10:07 PM
|
#3
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
مقتناه أتحفه بها أحد املسافرين، فسأله الغريب: أوليس عندكم نارجيلات من نحاس كالبيضة أو من جوزة الهند؟
ُّ فأجاب الحاني: لم نعد نستعملها من عشرين سنة. ٍّ
– عشرين سنة؟! قال الرجل ذلك متنهد َّ ا، ثم أردف: وما حل بالنوفرة وبصورة نابليون التي كانت معلَّقة على الجدار؟
فنظر إليه الدكاني باندهاش، ثم قال: أنت عارف كل شيء كأنك قضيت عمرك في َّ هذه الضيعة! فاعلم أن ِّ صاحب املحل َّغري َّ من سنتني أشياء كثرية وبد ٍ لها بأثاث جديد، ُه هدم الفسقيَّ َّ ة والنوفرة، وحو َّ ل املاء إلى الجنائن، وملا كلَّس الحيطان ومن جملة ما صنع أنَّ رفع الصورة؛ لأنها صارت قديمة وعلى ظني أصبحت الدكان أحسن من قبل، قال هذه ٍ العبارة بلهجة افتخار ونظرة رجل ُمعجب بنفسه. ُ
لكنه َّ رأى الغريب هز ً رأسه مستنكرا؛ إشارةً ُّ فأردف الحاني َّ كلامه بقوله: أما الصورة فلم تزل باقية عندنا مطروحة في الزوايا، ٍ فشرقت عندئذ ُ أسارير وجه الغريب ودخل معه إلى حيث أشار، ثم عاد يحمل الصورة ِّ ويتأملها بلهفة، وقد دار به ابنا الدكاني يحد ُ قان إليه بدهشة، ويحولان عنه إلى أبيهما ُ نظر مستفهم، ولا ريب أنه ُ أخذ منه الفرح مأخذه؛ إذ كانت تتلى على وجهه أساطري الحب، َّ والفوز ويومض من عينيه املغرورقتني بالدموع برق السرور، حتى إن الصبين مالا إليه َّ أي ٍ ميل.
فأخذ يديهما الناعمتني وقال: تستغربان ما بدا مني ولا يتضح لكما سر ما يخامرني ً ى هذه الصورة، فاعلما أني أنا أيض ُ ا ربيت هنا صغريًا، وطاملا رافقت أبي َ من التأثر ملرأ َّ ع العني بمنظر املاء تتكسر عليه إلى هذا املكان، فكم قضيت ساعات ألعب بالنوفرة، وأمتِّ ً أشعة الشمس فيتناثر دررا في الفسقية، وأنا أرقص طربً َّ ا لهذا املشهد البديع! أما الصورة ُّ فكنت أحب التأمل فيها وتقر عيني بمنظر هذا البطل العظيم، واليوم أمسى الصبي ً رجلا ِ ا في السن، وعلا البياض رأسه وزالت نضارة وجهه ُ ، ذاك الصبي أبعدته صروف طاعنً ِ الدهر عن أوطانه ُ ، وطرحته مطارح الأسفار إلى مجاهل إفريقية الجنوبية، فقضى فيها ِ أكثر من عشرين سنة، ولكنه لا يزال يذكر النوفرة والصورة، كأنه لم يمض َّإلا ٌ يوم من حني جاء به أبوه آخر مرة إلى هذا املكان.
فسأل أحد الصبيني: إذن أنت من بلدنا؟ ً فأجاب الرجل طافح ِ ا بالسرور: نعم من ضيعتكم، لكن هذا التصريح لم يأت بالنتيجة ْ املرغوبة، فإن الصبيني ٍ قابلاه بابتسامة َّ لطيفة ليس إلا، ولم يبديا أدنى اندهاش أو علامة
|
|
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ MS HMS على المشاركة المفيدة:
|
|
11-22-2017, 10:08 PM
|
#4
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
فرح مما علماه من أن َّ الرجل ابن الوطن، لا أحد الجوالني الأوروبيني الذين يطوفون أيام ً الصيف في أصقاع لبنان، ولم يجد لهذا النبأ وقع ً ا عظيم ُ ا في قلب الدكاني؛ ولذا لم يرج ُّ التعرف إليه فسأله: أين صاحب الخان ريشا؟
– أنت تعني طانيوس، فهذا قد مات من زمان.
– وامرأتُه الصالحة آسني؟ ً
– ماتت أيضا. َّ
– فتنهد الغريب وصاح: مات؟ ماتت؟ ثم سكت هنيهةً وسأل: وعبد الله الراعي صاحب الشبَّ ً ابة املشهورة الذي كنا نقضي معه أياما؟ ً
– سيدي إنك لا تجهل أحدا، لكن كل من ذكرتهم قد ماتوا.
٢ ً
فأطرق املسافر وخاض في بحر الأفكار املحزنة قائلا في ذاته: جئت أستعلم أخبارها ُّ فلا أجسر على السؤال؛ إذ بت َّ أخشى الجواب، لكنه عاد إلى نفسه بعد حني ملا رأى أحد القرويني أقبل يحمل حزمة من الأشواك والأغصان اليابسة، كان جمعها من الأحراش املجاورة فطرحها عند املدخل، وجلس يستريح على مصطبة هناك ويمسح بأذيال عباءته وجهه املكلَّ َّ ل بالعرق، فما تأمله إلا َّ صرخ بصوت الحبور وبادر إليه، ومد يده ليصافحه، َّ فتفر َّ س فيه الحطاب مستغربً ً ا وكأنه لم يكترث له، فصاح المسافر: وأنت أيضا يا بطرس َّ منصور لا تعرفني؟ فاعتذر الحطاب وحلف أنَّه لا يعرف له صورة قبل ذاك اليوم.
فسأله: ألا تذكر الرجل الذي خاطر بروحه َّ فلم يكن الحطاب ليفهم كلامه. ً
– هل نسيت الشاب الذي كان يدفع دائما عنك تعديات أولاد الضيعة، وعلَّمك ألعابًا ً كثرية وأركبك مرارا على حصانه؟ ُ
– أذكر َّ أن َّ املرحوم والدي أخبرني مر َّ ة أني ملا كان عمري خمس سنني، كاد يدعسني ٍ ا الطويل، لكن هذا سافر من خمس وعشرين سنة إلى بلاد الحصان لو لم يخلصني حنَّ بعيدة وراء البحر، ومن ذاك الحني لم نعد نسمع خبرً َّ ا عنه، وما أدرانا! لعل اليوم تكون عظامه صارت مكاحل، الله يرحم ترابه!
فصاح الغريب بفرح: إذن تعرفني الآن، أنا حنَّا الطويل، بل حنَّ َّ ا غنطوس، وملا رآه لا يبدي ولا يعيد أردف كلامه بقوله: ألا تذكر الصيَّاد الذي اشتهر في هذه الضيعة، حتى
|
|
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ MS HMS على المشاركة المفيدة:
|
|
11-22-2017, 10:08 PM
|
#5
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
كان لا يتقدم عليه أحد كلما هجم ذئب أو ضبع، فكان هو وحده يُخلِّص البلد من شر َّ خطئ ولا مرة؟ فأنا أنا الصيَّاد حنَّا غنطوس. ً الوحوش، ويصيب دائما لا يُ َّ فأجاب الحط ٍّ اب مترددا: ربَّ َّ ما يكون ذلك، أما أنا بلا مؤاخذة من جنابك يا سيدي فلا ٌّ أعرفك، وكيف أعرفك وأنت خواجة غني ٌّ كبري وأنا فلاح مسكني ما طلعت في عمري خارج الضيعة؟ ُ
قال هذا وألقى ظهره َّ ليستند إلى الحزمة، فكأنه أضر َّ به الحر والتعب، أو ظن َّ أن الغريب يسخر به فلم يبال بشأنه ولم يعبأ بأقواله، وليست كذلك حالة أمثاله إذا رأوا في بلدهم غريبًا ولا سيما أوربيٍّا، فإنهم يرحبون به ويكرمون مثواه. ُ
فساء املسافر إعراض َّ الحط ً اب فلم يزد إيضاح َّ ا، بل عاد فلف املاربيش على النارجيلة، َّ وهم ً بالانصراف قائلا بكل هدوء: لا تخلو الضيعة من أصدقاء لم ينسوني، فأنت يا بطرس منصور لا تُلام؛ لأنك كنت صغريً َّ ا في تلك الأيام، ولا شك َّ أن َّ الطحان نمر بشارة يعرفني َّلأو ٍ ل وهلة، فكيف شغله؟
– خربت مطحنته ونبت موضعها الدلب والحور. َّ
– والطحان نمر ماذا جرى له؟ ً
– أظن أنه انتقل مع عائلته إلى بريوت، والله أعلم بحاله، ولربما مات أيضا، والآن َ م عن زمن ج َّ دي، لكنك لا تحصل على جواب إلا من حفَّ ار القبور افهم يا خواجة أنك تتكلَّ الساكن في كوخ عند املقبرة فهو يعرف كل شيء، ويعد لك على أصابعه كل الحوادث التي جرت من مئة سنة. َّ
– لا يخفى عليَّ ذلك ولا يبعد أن يوسف روحانا جاوز التسعني.
– يوسف روحانا؟ ... ما هذا اسم الحفَّ ار، اسمه فارس عبود. َّ
فتنفس الغريب الصعداء وهتف: أشكرك اللهم؛ لأنك أبقيت على أحد أترابي. فتنفَّ
– كأن فارس صاحبك يا خواجة؟ َّ
– صاحبي! لا، فإننا كنَّ َّ الطامية من الأمطار فكاد يغرق، ولكن ذلك قديم العهد ولا ريب أن ً فارسا يُسر بلقائي ٌ وأنا ذاهب إليه في الحال. ٍ
وعندئذ أخذ قطعةً َّ من الفض ً ة وأعطاها للدكاني، واعد َّ ا بأن يتردَد ِّ إليه ليدخن عنده بالنارجيلة، فأجاب هذا: املحل محلكم يا سيدي، والكل تحت أمركم، وأشار إلى أحد ولديه ُ أن احمل خرج الخواجة ورح في خدمته.
|
|
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ MS HMS على المشاركة المفيدة:
|
|
11-22-2017, 10:08 PM
|
#6
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
قرة العني في خريدة لبنان
ً فشكر الرجل قائلا ٍ : ما من داع ْ إلى أن ُ تتعبه َّ ، ونفح الصبي ُ بدرهم وأخذ منه الخريطة، ٍ وانحدر في طريق ُ متوعرة شرقي الخان، وقد خرج الدكاني يشيعه ً مكثرا من إشارات الاحترام وعبارات الامتنان: «شرفتم الله يحفظكم، ربنا يطل عمركم»، حتى توارى المسافر ُ عن أبصاره فعاد وهو لا يتمالك من الفرح ملا ناله ُ من الحلوان.
٣
فسار المسافر ينوي خميلةً من الصنوبر، كان عهدها في صباه يروق له منظرها، فما أدركها حتى تقبَّض وأخذ منه الحزن؛ لأن عينه َّ لم تقر إلا ٍ على أغراس َّ حديثة، أما الأشجار ُّ الباسقة التي كان يستظل تحتها فوجدها قد عبثت بها أيدي الدهر، وتلاعبت بها عواصف َّ الرياح، فكسرتها، وقطعت فئوس الحطابين جذورها المتأصلة في الأرض، فأصابها ما َّ أصاب السكان من الخراب والفناء، وقد قام مكانها شجريات لم يألف جنسها ولم تفده خبرًا عن أحوال الأهلين .
بيد أنَّه كان يسمع تغريد الطيور المعششة فوق الأغصان، فوجدها لم تزل تصدح كمألوف عادتها، فتشنِّف الآذان بأصواتها المطربة؛ وكذلك كان يعمل في قلبه حفيف َ الشجر؛ لتلاعب النسيم بأغصانها، وقد علاها الجدجد وهو يصرصر ل****ة القيظ، ِّوكانت الزهور تبعث إليه بروائحها الذكيَّة فتلذ حاسة شمه، ففي كل هذه المناظر لم يجد ما غيرته الأيام سوى أعمال البشر، أما الطبيعة فلم تنفك تجري على ما وضعتها له
الحكمة الأزلية من النواميس.
فمشى في الخميلة حينًا يلوح على محياه , ما يزدحم في قلبه من العواطف، فطور يغلبه الفرح لوصوله ِ إلى مسقط رأسه، وتارة الكدر لوجوده نفسه غريبًا في وطنه، ويبدو في حركاته ما يتنازعه من عوامل الخوف والرجاء، فحينً ْ ا يخشى أن يدوي في أذنه الجواب على كل سؤال ِّ عن الأحباب «مات، ماتت»، فيقد ِم ر ًجل و يؤخر أخرى، وحينًا ينعش الأمل فؤاده فيرجو أن َّ تكون سهام الدهر أخطأت تلك التي وجه إليها أفكاره وعواطفه، بيد أنَّه لا يشك أنها لو بقيت في قيد الحياة لا تزال بعد ُ ثابتة على عهده، فيمكنه الاستمتاع بلقياها فينسى بقربها ما تجشمه من الأخطار وقاساه من الأهوال، فيزيد هذا الفكر في نشاطه وسرعة مشيه. وما كاد يخرج من الخميلة، حتى لاح له ً مشهد بديع فرأى رياضا أريضةً اكتست ُبحلةً َّ خضراء، وشاها بنان الربيع تنساب في أرجائها جداول املياه، كأنها أفاع تتململ،
|
|
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ MS HMS على المشاركة المفيدة:
|
|
11-22-2017, 10:09 PM
|
#7
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
قرة العني في خريدة لبنان
ٍ دموع ٍّ تتسلسل، أو لجين يسيل، أو صفحة سيف صقيل، ومنها ما يجري في قني واسعة، َّثم َ يهوي من عٍل فيدير المطاحن ويُ ٌّ سمع لها دوي ُّ وجعجعة تطن ً لها الآذان، فسار قليلا وإذا ببيوت الضيعة برزت للعيان وهي مبنيَّة من الحجر المنحوت الأصم، منها بيضاء السطوح، ومنها ما علاها القرميد الأحمر، وقد امتازت بين هذه المساكن كنيسة الضيعة ٍ مكللة بقبة جرس ٍ ، يزينها صليب أبيض يلمع كالنجم الهادي.
هي القرية، هو الوطن، فما كادت شفتاه تنطق بذلك، حتى همت على خديه دموع ِ الفرح، وسقطت من يده َّ الخريطة، فمد ذراعيه كأنه يحاول الطيران وفي قلبه من العواطف د ما يعجز عن وصفها القلم، فإنه جاب البلاد وطاف عواصم المماليك الأوروبيَّة، وتفقَّد ُ مصانعها ومعاملها، ولكنه لم يداخله ً قط يوما من عجائبها ما داخله ِ لدى نظره لمسقط ِ رأسه بعد طول الفراق ومر البعاد
وكانت الشمس ساعتئذ توسطت كبد السماء،فقُرع جرس الكنيسة إيذانًا بصلاة الظهر، فخر الرجل جاثيًا على ركبتيه ُ ولم يمنعه حر ِ الشمس من كشف قبعته وإحناء رأسه ً ، خاشعا فصلى صلاة حارة ثم َّوجه ألحاظه ُ نحو السماء فأرسلت عينه إلى أبي المواهب عبارة الشكر الجزيل خارجة من صميم الفؤاد، وبعد ذلك أخذ خريطته وأسرع في السير وعينه شاخصة إلى قبة الجرس ولسان حاله يقول: «سقياك يا كنيسة الوطن،
فإنك ِ أنت ِ لم تتبدلي ولم تغريك الأعوام، ففيك ُ نلت ِ نعمة العماد وما بني جدرانك فزت بنعيم املناولة الأولى، فطاملا قر ِ ت بك ِ عيني وطابت نفسي بما فيك ْ ، لقد أتاح لي السعد أن ِ أعود فأراك ِ وأرى على مذبحك ُ تمثال البتول في حلَّتها السماوية، وتاجها الفضي، وأشاهد ِ إيليا النبي وفي يده ُ الحسام، وأرى جرجس يطعن التنني المريع، وكم حلمت به فهنالي رؤيا التننين في منامي! أعود فأسمع الأناشيد الشجية وطالما أنعشتني نغماتها.»
قال هذا وأداه ُ السري إلى جسر فوق ساقية، فانبسط قلبه ِ ولاحت أنوار نفسه على ً وجهه، فتهلل حبور ُ ا وهتف: إلى هذا املقام شيَّعتني أنيسة، هنا ودعتها وأودعتها فؤادي، ِّ وفي ذلك الزمن كانت الرياض زاهرة كما هي الآن، والطيور تغرد كأنها تعللنا بالأماني. ٍ فأمسك عن الكلام وعبر الجسر وهو يتنهد ويقول بصوت َّ خافت: لعمري! إن تلك الزهور شهود الوداع قد ذبلت وفنيت، وتلك الطيور قد ماتت، وهاك صغار صغارها تنعتش الآن همة الشيخ الفاني، وقد كادت تغني أيام الهناء، وأنيسة ما حالها؟ ما حل بها
يا ترى أو هي في قيد الحياة؟ هل بقيت على العهد ثابتة؟ ما أدراني أنها لم تتأهل ً ورزقها الله أولاد ُ اشغلت بهم عن كل شاغل؟ بعدنا عن العني فسلاكم القلب، فأهل الوطن ُ لا يذكرون المنكود الحظ الذي ساقه ُ سوء طالعه فأبعده عن الديار.
|
|
|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ MS HMS على المشاركة المفيدة:
|
|
11-23-2017, 11:52 AM
|
#8
|
url=http://www.tra-sh.com/up/] [/url]
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
جلب رااائع ومميز
سلمت يمينك
يعطيك العافية
|
|
|
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ الخل الوفي على المشاركة المفيدة:
|
|
12-08-2017, 03:23 PM
|
#9
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
الاستاذة القديرة
{{ مس همس }}
موضوع رائع ومميز
وطرح راقي دمتِ ودام عطائك
سلمت اناملكِ الذهبيه على ما قدمتيه لنا
لكِ أطيب التحايا
مع خالص احترامي
|
|
|
11-23-2017, 12:40 PM
|
#10
|
رد: رواية : قرة العين في خريدة لبنان../ قروب العطاء
نقل قيّم
يعطيك العافيه ننتظر جديدك القادم ..
|
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 08:13 AM
| | | | | | | | | | |