لم يكن ذلك التسامح النبوي غير المتناهي في العظمة خاصًّا بزعماء قريش وحدها، رجالاً كانوا أو نساءً، وإنما تجاوزهم إلى كثير من قادة القبائل المختلفة. وفي هذه المقالات سنقتصر على ثلاثة من أبرزهم وأشدِّهم عداءً أو إيذاءً للنبي
..
مالك بن عوف
لقد كان موقف رسول الله
مع مالك بن عوف النصري زعيم قبائل هوازن موقفًا أعجب من أن يُستوعَب!!
كان مالك بن عوف زعيمًا خطيرًا من زعماء العرب، وقد استطاع أن يجمع جيشًا رهيبًا من قبائل هوازن وأعوانها من قبائل ثقيف وغيرها، بلغ قوامه خمسة وعشرين ألف مقاتل، وهو أكبر الجيوش العربية مطلقًا، وحفَّزهم تحفيزًا كبيرًا لقتال رسول الله
، لدرجة أنهم قبلوا أن يأخذوا معهم إلى أرض القتال نساءهم وأولادهم وأنعامهم وأموالهم كحافزٍ لهم على عدم الفرار..!!
وهم بذلك يُضَحُّون بكلِّ ما يملكون من أجل قتال المسلمين.
لقد كان الهدف واضحًا في ذهن مالك بن عوف، وهو استئصال المسلمين من جذورهم، وخطَّط لذلك تخطيطًا مُحْكَمًا، والتقى مع المسلمين في صدامٍ مروِّع بالقرب من وادي حنين[1]، وكادت خطته أن تُفْلِح، حتى زُلْزِلَ المسلمون زلزالاً شديدًا، وتعرضوا لأشد أزمة في تاريخهم مطلقًا، وكاد الوجود الإسلامي أن ينتهي، وكاد
الرسول أن يُقْتَلَ..!!
إنها أزمة الأزمات حقًّا!
ولكن شاء الله
بعد هذا الصدام المروِّع أن ينتصر المسلمون، وأن تَفِرَّ هوازن وثقيف أمام الجيش الإسلامي، وكان مالك بن عوف من الذين فرُّوا، وانضموا إلى أهل ثقيف في حصون الطائف..!!
بر
الرسول مع مالك بن عوف
وفي الوقت ذاته الذي فرَّ فيه مالك بن عوف، فكَّرت قبيلة هوازن في الإسلام، وكان الدافع الرئيسي لها في أول إسلامها هو استرداد النساء والأنعام التي أخذها المسلمون سبيًا وغنيمةً، ووجد مالك بن عوف نفسه وحيدًا شريدًا بعد أن كان قائدًا مُمَكَّنًا..
لقد وجدَ نفسه بلا مالٍ ولا ثروةٍ، وكذلك بلا قبيلةٍ ولا عُزْوَةٍ، وفوق ذلك فهو لاجئ عند قبيلة أخرى -قبيلة ثقيف- لا يأمَنُها على نفسه..!!
لقد كان في أشدِّ حالات الانكسار التي من الممكن أن يتعرض لها قائد.
وبينما هو في هذه الحالة المؤسفة المخزية، كان هناك من يفكِّر في أمره!!
إنه رسول الله
..!!
لقد سأل رسول الله
عن مالك بن عوف، وإلى أيِّ شيءٍ صار، فقال قومه: إنه في الطائف في حصون منيعة يخشى على نفسه. فقال
في روعته المعهودة:
«أَخْبِرُوا مَالِكًا إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَيْتَهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ»[2]!!
هل يمكن أن يتخيل ذلك أحد..؟!
أهذا هو التعامل المتوَقَّع من قائد منتصر مع زعيم الجيش المعادي له، المهزوم أمامه؟!!
إن عموم القادة في العالم ليتلذذون ويستمتعون بمحاكمة ومعاقبة وإذلال زعماء أعدائهم.. أمَّا أن يَرْفُقَ الزعيم المنتصر بزعيم معادٍ له، ويرقَّ له، ويبذل له، ويعطيه بسخاء.. فهذا ما لا يَسْتَوْعِبُ فهمَه قادةُ العالم!!
ووجد مالك بن عوف في كلمات رسول الله
الإنقاذ له من أزمته، فأسرع مُقبلاً على رسول الله
، وأعلن إسلامه بين يديه، فَقَبِلَهُ
دون قيد ولا شرط، ولم يُعَنِّفْهُ، ولم يَلُمْهُ، ولم يستفسر منه عن شيء!!
بل إن رسول الله
فعل ما هو أعظم من ذلك وأرقى..!! لقد أعاد مالك بن عوف رضي الله عنه زعيمًا مرة أخرى على هوازن، بل وكلَّفه بمهمَّة عسكرية في منتهى الأهمية، وهي مهمة حصار مدينة الطائف..!!
لقد احترم رسول الله
إمكانيات مالك بن عوف رضي الله عنه القيادية، وحفظ له سمعته ومكانته وقيمته، ولم يهدرها كما أُهْدِرَتْ آلاف وملايين الطاقات نتيجة عنجهية وتكبُّر بعض القادة.
لقد نسي رسول الله
ماضي مالك بن عوف في لحظة واحدة، وعامله معاملة القواد المحترمين، وحوَّل جهده من الإفساد في الأرض إلى إصلاحها.
فأيُّ خيرٍ عادَ على المسلمين..!! وأيُّ خيرٍ عادَ على هوازن..!! وأي خير عاد على مالك بن عوف رضي الله عنه..!!
هل نجد -بعد كل هذا- من يتَّهِمُ المسلمين بأنهم لا يعترفون بغيرهم أو يحترمون وجودهم؟ وهل في تاريخ غيرنا ما يشابه -ولو من بعيد- مواقف ذلكم النبي العظيم
؟!!
إن الحقيقة ظاهرة، وإن الأمر واضح، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
[1] وادي حنين: واد بين الطائف ومكة، قاتل فيه النبي قبيلة هوازن بعد فتحه مكة، وانتصر عليهم في وقعة مشهورة.
[2] انظر: الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/174.
slhpm hgvs,g ugdi hgwghm ,hgsghl hgpgrm hgvhfum hgvhfum hgvs,g hgwghm slhpm ugdi