.
كفالة اليتيم... إن لم يكن
الآن فمتى؟!
إذا كانت
كفالة اليتيم وإكرامه والإحسان إليه فضيلة عظيمة من فضائل الإسلام في كل زمان ومكان، فإن فضيلتها تزداد وتتضاعف في هذا الوقت، وتكتسب أهميتها في هذا الزمان حدا يبلغ درجة ضرورة التذكير بها والتنبيه لعظيم ثواب الإقبال عليها والتخلق بها، نظرًا لضخامة أعداد الأيتام من الأطفال القصر الذين فقدوا والديهم أو أحدهما جراء الحرب الدائرة في الدول العربية الإسلامية وخصوصًا في سورية والعراق واليمن.
وقبل الخوض في تفاصيل هذه الفضيلة العظيمة التي تدعو الظروف الحالية وجوب الدعاة والعلماء وأرباب التعليم والتوجيه والمسؤولية بواجب حث أهل الخير والكرم عليها.... لا بد من التنويه إلى ما يطلق عليه بعض الدعاة والعلماء اسم: "عبادة الوقت"، والذي يعني باختصار أن لكل وقت في الإسلام عبادة وطاعة تكون فيها هي الأفضل نظرًا لكونها هي العبادة ذات الأولوية على غيرها من العبادات في هذا الوقت، فمن المعلوم في دين الله أن الفريضة مقدمة على النافلة، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية، كما ان الأهم مقدم على المهم والعاجل مقدم على الآجل.
لقد أوضح الإمام ابن القيم رحمه الله تفاصيل "عبادة الوقت" بقوله: "إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت و وظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد وإن أدى إلى ترك الأوراد من صلاة الليل و قيام النهار، والأفضل في وقت حلول الضيف القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب... والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة و القرآن والذكر و الدعاء... والأفضل في أوقات الصلاة: الجد والنصح في إقامتها والمبادرة إليها.... والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: الاشتغال بمساعدته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك والأفضل في وقت نزول النوازل وأذى الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم... ثم الأفضل في كل حال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه" (مدارج السالكين 1/88).
وبناء على ما سبق فإن
كفالة أيتام المسلمين والعناية بهم وبذل المزيد من الجهود الإسلامية المادية والمعنوية الفردية والمؤسسية المحلية والدولية لاحتواء الأعداد الكبيرة الهائلة المتزايدة يومًا بعد يوم مع استمرار الحرب الدائرة في قلب العالم الإسلامي.... تغدو بلا شك "عبادة الوقت" الملحة.
يكفي دلالة على أهمية هذه الفضيلة في هذا الوقت الاطلاع على الإحصائيات المحلية والإقليمية والأممية المرعبة والمفزعة عن أعداد الأطفال الذين فقدوا أحد والديهم أو كليهما خلال سنوات الحرب الستة المستمرة في سورية، فقد أكدت بعض تلك الإحصائيات أن عدد الأطفال الذين فقدوا أحد والديهم بسبب الحرب في سوريا بلغ حوالي 800 ألف طفل حسب إحصائيات.
وإذا أضفنا إلى هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا في عداد الأيتام بسبب ما يجري في العراق منذ الاحتلال الأمريكي عام 2003م وحتى الآن، ناهيك عما خلفته الحرب في اليمن من أيتام، فإن
كفالة اليتيم تغدو "عبادة الوقت" بلا منازع.
إن من يتأمل في آيات كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، يدرك حجم اهتمام دين الله الخاتم بهذه الفضيلة العظيمة، فقد جعل الله سبحانه فضل الإنفاق على اليتيم والإحسان إليهما بعد الوالدين والأقربين فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ...} [ النساء:36].
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَافِلُ الْيَتِيمِ، لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»، وأشار مالك بالسبابة والوسطى (صحيح مسلم برقم /7660)
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: "وَأَمَّا قَوْله: «لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ»، فَاَلَّذِي لَهُ: أَنْ يَكُون قَرِيبًا لَهُ كَجَدِّهِ وَأُمّه وَجَدَّته وَأَخِيهِ وَأُخْته وَعَمّه وَخَاله وَعَمَّته وَخَالَته وَغَيْرهمْ مِنْ أَقَارِبه، وَاَلَّذِي لِغَيْرِهِ: أَنْ يَكُون أَجْنَبِيًّا".
وفي رواية أخرى للحديث عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَ «نَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ، وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ يَعْنِي السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى» (سنن الترمذي برقم /1918) وقال: هذا حديث حسن صحيح و صححه الألباني.
لم تكن جائزة صحبة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ومجاورته في الجنة هي الجائزة الوحيدة لكافل اليتيم -وما أعظمها من جائزة- فهناك من المنح والمنن الإلهية على هذا الباب العظيم من البر والخير ما لا يمكن استعراض تفاصيله في هذا المقال، ويكفي أن
كفالة اليتيم هي العلاج من داء استفحل في هذه الأيام واستعصى ألا وهو "قسوة القلب"، ففي الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي قسوة قلبه فقال له: أ «تحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك» (الجامع الصغير للسيوطي برقم/97 وصححه الألباني).
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن السعي على الأرملة والمسكين -والغالب في اليتيم أن يكون مسكينًا- كالعابد الذي لا يفتر عن العبادة فقال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» ، وأحسبه قال: «كالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر» (صحيح مسلم برقم/7659).
إن هذا الوقت الذي تضخمت فيه أعداد يتامى المسلمين جراء ما يجري في كل من سورية والعراق واليمن... وغيرها هو وقت
كفالة اليتيم بامتياز، فإن لم يبادر المسلمون إلى التخلق بهذه الخلق النبيل الآن، ولم يساهموا في حماية جيل كامل للأمة من الضياع... فمتى ؟