السؤال: يدعي بعض ضعاف الإيمان أن سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بدينهم، وشبهتهم في ذلك على حدّ زعمهم: هو أن الغرب لما تخلوا عن جميع الدّيانات وتحرروا منها وصلوا إلى ما وصلوا إليه من التقدم الحضاري. وصرنا نحن مع تمسكنا بديننا تابعين لهم، لا متبوعين. وكيف الجواب عن هذه الافتراءات؟ وربما زادوا شبهتهم بما عند الغرب من الأمطار الكثيرة، والزروع والخضرة.. فيقولون: إن هذا دليل على صحة ما هم عليه!
الجواب: نقول: إن هذا السؤال ورد من سائل ضعيف الإيمان، أو مفقود الإيمان[1]، جاهل بالتاريخ؛ غير عالم بأسباب النصر؛ فالأمة الإسلامية لما كانت متمسكة بدينها في صدر الإسلام كان لها العزة والتمكين، والقوة والسيطرة، في جميع نواحي الحياة.
بل إن بعض الناس يقول: إن الغرب لم يستفيدوا ما استفادوه من العلوم إلا مما تلقوه عن المسلمين في صدر الإسلام.
ولكن الأمة الإسلامية تخلفت كثيرًا عن دينها، وابتدعت في دين الله ما ليس منه عقيدة وقولًا وفعلًا، وحصل بذلك التأخر الكبير والتخلّف الكثير.
ونحن نعلم علم اليقين، ونشهد الله عز وجل أننا لو رجعنا إلى ما كان عليه أسلافنا في ديننا، لكانت لنا العزة والكرامة والظهور على جميع الناس، ولهذا لما حدّث أبو سفيان هِرَقْلَ ملكَ الروم - والروم في ذلك الوقت تعتبر دولة عظمى - بما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، قال: «إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ... وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ ». ولما خرج أبوسفيان وأصحابه من عند هرقل قال: « لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ »[2].
وأما ما حصل في الدول الغربية الكافرة الملحدة من التقدم في الصناعات والتكنولوجيا وغيرها، فإن ديننا لا يمنع منه، لو أننا التفتنا إليه؛ لكن مع الأسف ضيعنا هذا وهذا. وضيعنا ديننا، وضيعنا دنيانا، وإلا فإن الدين الإسلامي لا يعارض هذا التقدم، بل قال الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفَال: 60] وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [المُلك] وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البَقَرَة، من الآية: ] وقال تعالى: ﴿ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ﴾ [الرّعد، من الآية: 4]. إلى غير ذلك من الآيات التي تعلن إعلانًا ظاهرًا للإنسان: أن يكتسب ويعمل وينتفع؛ لكن لا على حساب الدين. فهذه الأمم الكافرة هي كافرة من الأصل، دينها الذي كانت تدعيه دين باطل فهو وإلحادها على حدّ سواء، لا فرق، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عِـمرَان، من الآية: 85].
وإن كان أهل الكتاب من اليهود والنصارى لهم بعض المزايا التي يخالفون غيرهم فيها، لكنه بالنسبة للآخرة هم وغيرهم سواء ولهذا أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يَسْمَعُ به من هذه الأُمَّة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم لا يَتَّبِعُ ما جاء به إلا كان من أصحاب النار[3]. فهم من الأصل كافرون سواء انتسبوا إلى اليهودية أو النصرانية أم لم ينتسبوا إليها!! وأما ما يحصل لهم من الأمطار وغيرها فهم يصابون بهذا ابتلاء من الله تعالى، وامتحانًا، وتُعَجَّل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب وقد رآه قد أثر في جنبه حصير، فبكى عمر. فقال: يا رسول الله.. فارس والروم يعيشون فيما يعيشون فيه من النعيم، وأنت على هذه الحال؟! فقال: « أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»[4]. ثم إنهم يأتيهم من القحط والبلايا والزلازل والعواصف المدمرة ما هو معلوم، وينشر دائمًا في الإذاعات وفي الصحف وفي غيرها.
ولكن هذا السائل أعمى، أعمى الله بصيرته، فلم يعرف الواقع. ولم يعرف حقيقة الأمر. وإن نصيحتي له أن يتوب إلى الله عز وجل عن هذه التصورات قبل أن يفاجئه الموت، وأن يرجع إلى ربه، وأن يعلم أنه لا عزة لنا ولا كرامة ولا ظهور ولا سيادة إلا إذا رجعنا إلى دين الإسلام، رجوعًا حقيقيًّا، يصدقه القول والفعل. وأن يعلم أن ما عليه هؤلاء الكفار باطل، ليس بحق وأن مأواهم النار، كما أخبر الله بذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الإمداد الذي أمدهم الله به من النعم ما هو إلا ابتلاء، وامتحان، وتعجيل طيبات، حتى إذا هلكوا وفارقوا هذا النعيم إلى الجحيم ازدادت عليهم الحسرة، والألم والحزن. وهذا من حكمة الله عز وجل بتنعيم هؤلاء. على أنهم كما قلت: لم يسلموا من الكوارث التي تصيبهم، ومن الزلازل والقحط والعواصف، والفيضانات وغيرها.
فأسأل الله لهذا السائل الهداية والتوفيق، وأن يرده إلى الحق، وأن يبصرنا جميعًا في ديننا، إنه جواد كريم. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المفتي: سماحة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين - «ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة» (ص 4 – 9)
[1]لعل الشيخ لا يقصد من قدم السؤال بل يقصد من أورد السائل دعواهم الكفرية. ثم إن من يقول هذا ليس ضعيف الإيمان بل كافرًا كفرًا بواحًا، نسأل الله العافية. [2]البخاري (7)، (41)، ومسلم (1773) . ومعنى (أَمِرَ) أي: كبُر وعظُم، و(ابن أبي كبشة) لقب انتقاص كان يطلقه الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعييرًا له بأبيه من الرضاعة. قاتلهم الله. [3] مسلم (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [4] البخاري (2468)، (5191).