وهي أول
شهوة حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم أمّته حيث قال صلى الله عليه وسلم : « إن
الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها ، فينظر كيف تعملون فاتقوا
الدنيا ، .. » .
ولأن الرزق مضمون ، لذا لم يخش علينا النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر بل خاف علينا الغنى ، فأقسم صلى الله عليه وسلم –وهل يحتاج مثله إلى قسم؟!- : « والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم
الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم ؛ فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم » .
والحق أن
شهوة حب
المال عمت غالب الخلق حتى فُتِنوا بالدنيا وزهرتها ، وصارت غاية قصدهم : لها يطلبون ، وبها يرضون ، ومن أجلها يغضبون ، وبسببها يوالون ، وعليها يعادون ، وكم قُطِعت أرحام في سبيلها ، وسُفِكت دماء بسببها ، ووقعت فواحش من أجلها ، ونزلت القطيعة وحلَّت البغضاء ، وفُرِّق بين الأخ وأخيه ، وتقاتل الأب مع ابنه ، وتعادى الأصحاب والخلان ، والسبب : دنيا.
وهذا ما استشرفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حتى لم يؤثِّر في بصيرته الفرح بالغنيمة والانشغال بالنصر ، فقد أورد ابن حجر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بمال من المشرق يُقال له نفل كسرى ، فأَمر به فصُبَّ وغُطِّي ، ثم دعا الناس فاجتمعوا ، ثم أمر به فكُشِف عنه ، فإذا حُلي كثير وجوهر ومتاع ، فبكى عمر ، وحمد الله عز وجل ، فقالوا له : ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! هذه غنائم غنمها الله لنا ونزعها من أهلها ، فقال : " ما فُتِح من هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم واستحلوا حرمتهم " .
ولماذا لا يبكي عمر ، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المصير في نظره لحالنا المؤلم من وراء ستار رقيق ، فقال : « كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟ ». قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : نقول كما أمرنا الله. قال : « أو غير ذلك؟ تتنافسون ، ثم تتحاسدون ، ثم تتدابرون » .
ولأنه رأى ما لم نر ، وأحس بما ينتظرنا ، وخاف من سوء عاقبتنا ، فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من أناس يبيعون الدين بعرض
الدنيا ، فقال صلى الله عليه وسلم : « بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم : يُصبح الرجل مؤمنا ويُمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من
الدنيا » .
وهو ما أخاف عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة حتى بكى ، فقال : يا أبا فلان!! أتخشى علي. قال : كيف حبك للدرهم؟! قال : لا أحبه قال : " لا تخف فإن الله سيعينك "
ومن آثارها المدمِّرة عدم جدوى نصيحة عشاقها ، وهو ما سبق ورصده أبو يحيى مالك بن دينار حين قال : " إن البدن إذا سقم لم ينجح فيه طعام ولا شراب ، ولا نوم ولا راحة ، وكذلك القلب إذا علقه حب
الدنيا لم تنجح فيه الموعظة " .
ومن آثارها المؤلمة والمشاهدة بوضوح والمُجرَّبة مرارا وتكرارا أنك " بقدر ما تحزن للدنيا يخرج همّ الآخرة من قلبك ، وبقدر ما تحزن للآخرة كذلك يخرج همّ
الدنيا من قلبك " .
الفضيحة
ومن علامات حب
الدنيا : بيع الآخرة بالاغتراف من
المال دون مبالاة بمصدره : حلال أم حرام ، وقد تنبَّأ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الزمان ، ولعله زماننا الذي نعيش فيه فقال : « ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال؟ أمن حلال أم من حرام؟ » .
وجزم في قول آخر أن هذا الداء داء قديم موغل في القِدم فقال :
« إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم » .
وإذا كان لا بد من ورود كلمة الحرص في قاموس حياتك ، فليكن الحرص النافع لا الحرص الفاجع كما في نصيحة العابد الزاهد عبد الواحد بن زيد الذي قال :
" الحرص حرصان : حرص فاجع ، وحرص نافع ، فأما النافع : فحرص المرء على طاعة الله ، وأما الحرص الفاجع : فحرص المرء على
الدنيا " .
ومن علامات حب
الدنيا : الحسد الذي يحس صاحبه بالألم إذا فاته من حظوظ
الدنيا شيء كالمال والجاه والمنصب والسلطان ، فلا يرضى عن حاله أبدا ، بل يعتبر نفسه دائما سيء الحظ صريع الأقدار لأنه لم ينل ما نال غيره ، مع أنه لا يحس بنفس الشعور إذا رأى من هو خير منه دينا وأفضل منه خلقا ، فلا يغار إلا لدنيا ، ولا ينافس أبدا في دين ، ليكون ممن عيَّرَهم ابن المبارك بقوله :
أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا ** ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغنِ بالدين عن دنيا الملوك كما ** استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
والحسد كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدش الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم : « ولا يجتمعان في قلب عبد : الإيمان والحسد » ، فيا أخي الحاسد :
متى تُمسي وتُصبح مستريحا ** وأنت الدهر لا ترضى بحال
وقد يجري قليل
المال مجرى ** كثير
المال في سد الخلال
إذا كان القليل يسدُّ فقري ** ولم أجد الكثير فلا أبالي
ومن علامات حب
الدنيا : كثرة الحديث عنها ، فمن أحبَّ شيئا أكثر من ذكره ، فكثرة الكلام عن التجارات ، وأحدث الأزياء والموضات ، وأنواع السيارات ، وآخر الصيحات ، وأشهى المأكولات ، وإضاعة المجالس في الإشادة بهذه الأمور ؛ كل هذا يدل على أن القلب مزدحم بدنيا لم تفسح للآخرة موضع قدم.
ومن علامات حب
الدنيا : المغالاة في الاهتمام بترفيه النفس مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا ، والاهتمام بالكماليات والترفيات اهتماما يملك عليه وقته وعقله ، فيجهد نفسه بشراء الأنيق من اللباس ويزوِّق مسكنه وينفق الأموال والأوقات في هذا ، ويغرق في التنعيم والترف المنهي عنه في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأوصاه فقال : « إياك والتنعيم ، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين » .
ولذلك حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الكفاية من
الدنيا دون التوسع الذي يشغل عن ذكر الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما يكفيك من جمع
المال خادم ومركب في سبيل الله » ، بل هدَّد النبي صلى الله عليه وسلم المكثرين من الأموال إلا أهل الصدقات فقال : « ويل للمكثرين إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا ، أربع عن يمينه وعن شماله ومن قُدَّامه ومن ورائه » ، وصدق القائل :
فلو كانت
الدنيا جزاءً لمُحسِنٍ ** إذا لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة ** وقد شبِعت فيها بطون البهائم
لا تذموها ولكن
قال يحيى بن معاذ الرازي : "
الدنيا خزانة الله فما الذي يُبغض منها ، وكل شيء من حجر أو مدر أو شجر يسبِّح الله فيها. قال الله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " ، وقال الله تعالى : " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ، فالمجيب له بالطاعة لا يستحق أن يكون بغيضا في قلوب المؤمنين " .
فليس المطلوب منك سب
الدنيا أو الهرب منها بل الواجب عليك : تحقيق الزهد ، والزهد في أبسط صوره ومعانيه أن تحوز
الدنيا في يدك لا في قلبك ، وأن تملكها لا أن تملكك ، وأن تضحي بها في سبيل آخرتك لا أن تبيع الآخرة من أجلها ، وأن تطلب الآخرة بالدنيا لا أن تطلب
الدنيا بالآخرة ، وأن تفرِّغ قلبك مما خلت منه يدك ، ويبشِّرك عندها بحسن العاقبة الدنيوية والأخروية يحيى بن معاذ فيقول :
"
الدنيا أمير من طلبها ، وخادم من تركها ،
الدنيا طالبة ومطلوبة ، فمن طلبها رفضته ، ومن رفضها طلبته ،
الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها ، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور ، ومن طلَّق
الدنيا فالآخرة زوجته ، فالدنيا مطَلَّقة الأكياس ، لا تنقضي عدتها أبدا ، فخلِّ
الدنيا ولا تذكرها ، واذكر الآخرة ولا تنسها ، وخذ من
الدنيا ما يبلِّغك الآخرة ، ولا تأخذ من
الدنيا ما يمنعك الآخرة
وما يعين قلبك على التشبع بالزهد : المقارنة العابرة بين
الدنيا والآخرة كمَّا وكيفا ، فالدنيا أيام قلائل معدومة في مواجهة خلود لا آخر له ، والدنيا نعيمها متنغص ، إن أضحكت اليوم أبكت غدا ، وإن سرَّت تبع سرورها الردى ، وإن حلَّت فيها النعم جميعا نزلت فيها النقم سريعا ، إن أخصبت أجدبت ، وإن جمعت فرَّقت ، وإن ضمت شتَّتت ، وإن زادت أبادت ، وإن أسفرت أدبرت ، وإن راقت أراقت ، وإن عمَّت بنوالها غمَّت بوبالها ، وإن جادت بوصالها جاءت بفصالها ، غزيرة الآفات ، كثيرة الحسرات ، قليلة الصفا ، عديمة الوفا ، ومن لم يتبصر في أمرها اليوم عضّ يديه غدا ، وبكى مع الدمع دما ، بل وحتى من ملك أقصى نعيمها .. أتظنونه قد استراح؟! كلا والله ..
أرى من
الدنيا لمن هي في يديه ** عذابا كلما كثُرت لديه
تهين لها المكرمين لها بذل ** وتُكِرم كل من هانت لديه
وأين كل هذا من الآخرة ونعيم الآخرة ولذة الآخرة وخلود الآخرة؟!
وبعد الإحاطة بالزهد علما تنزل إلى ساحة الجد عملا ، وممارسة يومية ومشقة نفسية ، والنفس على ما عوَّدتها نشأت ، وكيف ما ربيتها نمت وترعرت ، ولذا لما قيل هذا المعنى شعرا على لسان أبي ذؤيب الهذلي :
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها ** وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنع
قال الأصمعي : " هذا أبدع بيت قالته العرب " .
توازَن .. لا تقع
واسمع إلى هذا التوازن الرائع الذي نجح في بلوغه الصحابي الجليل الزبير بن العوَّام رضي الله عنه ، وتعليمه لنا معنى الزهد الحقيقي ، وذلك في ما رواه عنه عمر بن قيس قال :
" كان لابن الزبير مائة غلام ، يتكلم كل غلام منهم بلغة أخرى ، فكان ابن الزبير يُكلِّم كل واحد منهم بلغته ، فكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت : هذا رجل لم يُرِد الله طرفة عين ، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت : هذا رجل لم يُرِد
الدنيا طرفة عين " .
إنه الاحتراف الإيماني بشقيه الدنيوي والأخروي ، وبلوغ المؤمن أقصى ما يبلغه صاحب دنيا من علوم وفنون ، وما يبلغه صاحب آخره من تقوى واهتداء ، وما أحوجنا اليوم إلى أحفاد ابن الزبير ، نريد المؤمن الثري الذي يضرب بماله في كل تجارة ويربح في كل سوق ، ثم هو مع ذلك الزاهد الورِع الذي يسخِّر ماله لنصرة الدين ونفع المسلمين .. نريد الناس إذا مدحوا ثريا بكثرة ماله التفتوا إلى تقواه فزادهم إيمانا واقتداء .. نريد أن نكسر احتكار ملايين اللاهين والعابثين لثروات الأمّة .. نريد أن نذكر أن عثمان اشترى الجنّة بماله ، وأن مال أبي بكر هو أكثر ما نفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك نريد أن نفعل.
نعم .. آن لنا نحن أبناء الإسلام في القرن الحادي والعشرين أن ندرك الزهد الحقيقي بعد أن فهمناه دهرا فقرا ورضا بالقليل وإيثارا للعزلة في الزوايا على المضاربة في الأسواق تاركين الساحة لكل عابث فاجر أو عدو ماكر ، وهو ما فطن إليه علم الزهد في زمانه سفيان الثوري وأدرك تغير أولويات كل زمن فقال : " كان
المال فيما مضى يُكره ، فأما اليوم فهو ترس المؤمن "
ممااستوقفني