منتديات تراتيل شاعر - عرض مشاركة واحدة - فــوضى الفــصول(2)
عرض مشاركة واحدة
قديم 05-14-2022, 11:08 PM   #2


الصورة الرمزية شموع الحب

 
 عضويتي » 1189
 جيت فيذا » Mar 2016
 آخر حضور » 04-08-2025 (10:45 PM)
آبدآعاتي » 946,251
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه »  Saudi Arabia
جنسي  »  Female
آلقسم آلمفضل  » الاسلامي ♡
آلعمر  » 17 سنه
الحآلة آلآجتمآعية  » مرتبط ♡
 التقييم » شموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond reputeشموع الحب has a reputation beyond repute
مشروبك   7up
قناتك fox
اشجع naser
مَزآجِي  »  1

اصدار الفوتوشوب : لا استخدمه My Camera:

My Flickr My twitter

sms ~
 

شموع الحب غير متواجد حالياً

افتراضي رد: فــوضى الفــصول(2)




ـ أليست نذالة ما بعدها نذالة!؟ ما البطولة في أن تجتمع دول ثلاث على مدينة واحدة!؟

يتصاعد الدم إلى الوجنات!

ـ ولكن أين هي مشاركتنا نحن!؟

وتأخذ الآراء الممسوسة بغضب خفيّ بالتباين، فإذا هدأ الإعصار، وعادت إلى الحوار لفحة الهدوء، تنحنحتَ على استحياء، وتغلبّتَ على خجلك مستفسراً!

أنْ ما هي قصة "بور سعيد" هذه!؟

فيتوقّفون هنيهة، ثم يبتسمون، لقد رؤوك أخيراً، وهـاهم يحدثونك عن

المدينة التي هاجمها الصهاينة والإنكليز والفرنسيون؛ من غير أن تجد الكلمات لنفسها معادلات موضوعية، وتتحرّج من السؤال ثانية، لكن علامات الاستفهام الممتدة بينكم تفصح، فيتسابقون إلى الإيضاح، وببطء عشب يتململ تحت الثلج، يأخذ الفهم بالدنّو، فما تعود تلك الأغاني التي تذاع مراراً، والتظاهرات التي اجتاحت البلدة في الآونة الأخيرة ضّد حلف بغداد سديماً ملغزاً، وتشعر بأنك تحتاج إلى استعادة الحديث كلمة كلمة حتى تفهم جيداً!

ـ أن لا شيء كالألم يجمعنا! لقد قالها الأقدمون: "آخر الطب هو الكيّ"! ويبدو أن لا بديل لنا عن الوحدة!

ويشتعل أحدهم بالحماسة:

ـ فعلها أبو خالد، وأمّم القناة!

ـ بل قل فعلها العمال السوريون الذين فجّروا أنابيب النفط كي لا يستفيد منها العدو!

ومع تقّدم الحوار كان شيء ما تحت الشغاف يتململ، يتكسّر الكلام، يتثلّم، ويتوّقف، ثم يعود متدّفقاً!

ـ وكيف تريد للوحدة أن تتحقق بين أنظمة مختلفة، الإمارة هنا، والسلطنة هناك، و … !؟

يصيب الكلام مقتلاً، فتتحول الأعصاب إلى سهام قيد الإطلاق، ويتوتر الجو منذراً بالانفجار، ويحلّق الدخان مهوّماً!

ـ قل إنك ضد الوحدة!

ـ يــا أخي المسألة ليست على نحو ما ذكرت، ولكن قل لي أنت، كيف نتحّد مع الجزائر المستعمرة، أو محميات الخليج!؟

يوغل الكلام في مدار الاتهامات، وتتشعّب الردود، فتصعب عليك المتابعة، وتتساءل:

من أين يأتيهم كل ذلك الحديث المنمّق!؟

لكن الكلام يهمد دفعة واحدة، وتصافح المياه الشواطئ بوداعة صلح غير معلن!

ـ هه! ألم تجد عملاً بعد!؟

يتوجّهون إليك بالسؤال بعد صمت!

ـ آه! من أين يا صديقي!؟

وتلتمع العيون ثانية، ويتوهج الدم في الأوردة، يسقط الهدنة المُضمرة!

ـ أين الدولة مما يحصل!؟

تتداخل الآراء، فيما تتساءل ـ أنت ـ في سرّك مندهشاً!

ما علاقة الدولة بالموضوع!؟

إلا أنك لا تود أن تفقدهم، فتفقد بذلك حسّاً نامياً بالتعاطف، باندماج الفرد في المجموع، فتروح تسأل، وتقرأ، وتمحّص، وبمرور الزمن تبدأ الصورة تنهض على عودها، وتجد الكلمات لنفسها ماهيّات!

كان الليل يتقّدم منذراً ببرد قارس، فاستأذنتهم في الانصراف، ونهضتَ! الأضواء تنعكس على صفحة الرصيف المغسول، وحبة المطر ترسم في محيطها فقاعة دائرية، والشوارع تتشّح بالوحشة والخواء، وأنت تغذّ السير محتمياً بالجدران والشرفات ما أمكن، وبرغم البرد والبلل راحت الذاكرة تغزل في حلمها صورة ما يجري خلف تلك الجدران من اجتماع العائلة حول الموقد! الأطفال يلعبون فوق البساط الصوفيّ الدافئ، بينما تلتف يد الزوج حول كتف زوجته!

مسكوناً بالرعب عبرتَ الجسر! كان النهر يصطفق هادراً، والريح تعول في الظلام كذئاب جائعة، فراحت الذاكرة تستعيد الحكايات المرعبة التي كان الناس يتداولونها ؛ عن عصابات مجهولة تعترض السابلة في طريق عودتهم، وتسلبهم ما في جيوبهم، ومن يدري، إذْ ربما كانت ستسلبهم حياتهم أيضاً، لولا ستار الظلام الذي كان يحميها من الانكشاف، وأخذ الخوف يسري في الفقرات المتوجّسة المتأهبّة لتلقّي طعنة غادرة، فيما بدت خطاك مُضخّمة، وغريبة عنك!‍

كانت بدايات الحيّ غارقة في ظلمة موحشة تنداح على الأزقة والبيوت والمفاصل، تحيل بمجملها إلى حالة شبيهة بالهدوء، لكنّها ليست هدوءاً بمقدار ما هي استكانة أو انكسار! وبتؤدة حاولتَ أن تتجنّب برك الماء والطين التي تناثرت في الدروب الترابية الضيقة، لكن نباح الكلاب لم يترك للأعصاب المشدودة فرصة للراحة إلى أن وصلتَ! كان باب الحوش منتفخ الأوداج بفعل الرطوبة، فدفعته بصعوبة!

ـ من !؟

ـ أنا يا أماه!

وانتشر ضوء "اللمبة" الشاحب مرخياً على الأشياء كآبة قد لا تكون في أصلها، بقدر ما كانت النفس المسكونة بالهواجس هي التي تراها من خلال كربتها بتلك الصورة! وببطء، بغير ما شهية أخذتَ تلوك العشاء المُكوّن من البطاطس المقلية بالزيت؛ بعد أن سخّنَتها أمك، ثم اندسستَ في الفراش، وشيئاً فشيئاً أخذ الدفء يشيع في الجسد، والأطراف المُتعبة تسترخي غبّ يوم بارد، فتدافع شريط غير منتظم من الذكريات؛ مستغلاً حياد الإرادة الواهنة، بيد أن النوم ظلّ ينأى، ربما لأن وقع مياه الدلف المتسرّبة عن السقف في الآنية بقي يضغط على الأعصاب مناكفاً!

ـ أمّاه، لماذا لا تبعدين هذه الآنية، إنّها تمنعني من النوم!؟

ـ لأنّ المياه ستغرق الأغطية يا بنيّ!

وأغمضتَ عينيك على دوار مميت! سنوات بائسة من عمرك كانت قد تسرّبت من بين أصابعك بسرعة! قد تكون قليلة في عددها، ولكنها نقلتك من سنّ الطفولة إلى سنّ الشباب، بعد أن اقتنص الشحّ وضيق ذات اليد بهجة تلك السنّ وزهوها، وترك لها الخيبات والأحلام المخفقة وأوراق "اليانصيب"، التي ظلت عالقة بجلدك كوشم!

كانت صورة القرية قد بهتت، إذْ كان ثمة مسافة طويلة تفصلك عنها، مسافة تقاس بما تركته في الروح من أثر ربّما، وربّما بما استجّد من أمور في الأفق، وما أكثر جديدك في تلك الفترة! ذلك أن المرض كان قد شدّد من هجمته على أبيك، وما كان الدواء رخيصاً، وحين راح الشفاء يعزّ، وأظهرت الأيام لكم وجهها المربد؛ تركتَ المدرسة في منتصف المسافة، فيما اضطرت أمك للعمل في الحقول المجاورة للبلدة، وفي الوقت الذي كانت الأحلام ـ فيه ـ ما تنفّك تفقد بريقها على مذبح الأيام راحت الصرخة من مختلف أنحاء الجسد المتعب تعلو، فهل كنتَ ـ حقاً ـ قد قدمتَ إلى هذا العالم خطأً!؟

- 2 -
في الوقت الذي كان البلد يمور ـ فيه ـ بالحركة، وكلّ مواطن يشعر بأنّه قد أسهم في إسقاط عقب " الشيشكلي" العاتية، بعد أن رزح الناس تحتها طويلاً، ويحقّ له أن يصرخ بملء فمه، أو يجهر بما يريد، كنتَ أنت خارج السياق وحيداً مع مشكلتك، فراحت خطاك التائهة ترتطم ببعضها فوق الأرصفة، تلوب على غير هدى! ومع الجواب الذي تلقيّته من الدائرة الرسمية قبل قليل "أنْ لا يوجد عمل" أخذت المساحات بين اندفاعات الذات المقهورة والواقع تغتال أحلامك!

خفق الفؤاد حزنٌ يهدر متمرّداً على مدار الصمت، محتجاً على فداحة الخسران، فيما كل شيء من حولك أخرس، محايد، وحادٍ كمشرط، وبغير ما هدف راحت الأزقّة تسحبك خلفها، لتدور وتدور، تتقّدم حيناً، وتترّدد، وتحجم! ثم تحزم أمرك ثانية، وتقصد دائرة أخرى، لكن الإجابة ذاتها تصفعك! فتخرج من المبنى الرسمي متداعياً، منكسراً، ذاهلاً عمّا حولك!

أين تذهب الخطا المتعبة، وفي العالم كل هذا الخواء!؟

بيد أن الزمن ما كان ليقدّم أجوبة شافية وفورية، فترتد إلى أوراقك كسيراً، فيما الأماني تتضاءل! ومن حولك كانت الأمور تأخذ إيقاعاً مختلفاً، بحيث راحت تلوح للناظر ممسوسة بعصا سحرية، وأنشأت الأحلام تكبر مأخوذة بأصداء النصر بين أن يبقى الفلاحون في الأراضي التي كانوا يعملون بها! وأن يُربط الأجر بالإنتاج، وأن تتحقّق "الديموقراطية" لكلِّ المواطنين! كلّ فرد كان يحاول ـ من جانبه ـ أن يبني حاجزاً في وجه الزمن الراشح بالرعب ليعزلـه، ويطــرد آونة الرداءة، إلا أن جدار العزلـة بينك وبين مـا

يحدث أخذ يعلو!

فهل كان ذلك الجدار إحساساً بالقصور عن التواصل مع الجماعة التي لم تمنح لقامتك مداها!؟ أم كان شعوراً بالظلم والفوات؛ من غير أن تستطيع تلمّس مصدر ذلك الظلم بوضوح!؟

لكن الأجوبة راحت تراوغ؛ مستعصية على مداركك المتواضعة، فكنت تمضي مع الأرصفة،في الوقت الذي كانت الحياة فيه ـ تتصرّم ـ صاخبة؛ لا تلوي على شيء!

ـ شدّادي، مَرْكدة! شدّادي، مَرْكدة!

يرتفع صوت دلال المرآب، وتنطلق السيارات بسرعة البرق؛ تمزق براءة الصمت، وحياده المخاتل، بينما ثلّة من البدو تساوم بائعاً على صحيفة دبس، نادل المطعم يحمل طبقاً كبيراً ـ فوقه ـ اصطفت صحون عديدة، ومجموعة صغيرة من النساء اجتمعن لشراء الجبن، عربة شاحنة راحت تفرغ حمولتها في أحد المستودعات، واللحّام يصرخ في "صبيّه" موبخّاً، وعلى الرصيف تهاوت أسرة ريفية أمام عيادة الطبيب، وفي انتظاره تمدّد مريضها على الأرض؛ واضعاً رأسه في حجر أمه! الكلّ مشغول بنفسه، ولا أحد يدري ما بك !

ألستَ والبلد شيئاً واحداً!؟

أليس البلد مجموع مواطنيه!؟

أليس الخاص جزءاً من العام!؟

تتساءل وطعم المرارة يسفُّ الحلق، وتتساءل أيضاً!

والآن، إلى أين!؟

لكن المشاعر المتشظّية لاتجيب، والأسئلة تضغط، تجرح المشاعر الكليمة، وتبحث عن يد حانية رحيمة، فلا ترى ملاذاً يخلصّك من الألم غير ثلّة الشباب تلك؛ حيث يمكنك أن تطلب توازناً مُفتقداً، وتتخفّف من الثقل الذي يبهظ كاهلك! لكنك تعرف بأنّ الوقت غير مناسب، ذلك أنهم ـ الآن ـ منهمكون في أعمالهم، فكيف ستتخفّف من تلك الأحمال التي تنوء بها!؟ كيف!؟ وهرباً من الأسئلة المحتشدة في الرأس؛ لا ترى ضيراً في المحاولة؛ بأمل أن تقع على بعضهم هناك!

حين وصلتَ؛ فاجأك دخان كثيف يصعب معه التنفسّ! كان إيقاع النرد يتداخل مع قرقرة "الأراكيل"، والأصوات المبهمة التي تنداح في أرجاء المكان! وفي زاوية قصّية وقعت عيناك على بعضهم، فتنفسّتَ الصعداء، ودنوت منهم متهاوياً على الكرسيّ، متدارياً بتماسك هشّ، لكنه لم يكن كفيلاً بإخفاء حالتك، فكان أن وضعوا أيديهم على الخلل!

ـ ما بك لستَ على ما رام!؟

وكمن كان ينتظر ذلك السؤال اندفعتَ ثائراً مثل بركان حبيس زالت الطبقة الرقيقة من التربة عن سطحه، فتدافع الكلام متشنّجاً؛ مزدحماً بالمرارة والعكر والدموع التي استطاعت أن تفلت رغم الكبح! وشيئاً فشيئاً راح الاحتقان المؤلم يخفّف من غلوائه، والغصّة الجريحة في الحلق ترخي من قبضتها!

ـ هوّن عليك يا رجل!

ربتَ أحدهم على كتفك، فيما انبرى آخر بغضب!

ـ ولكن بالله عليكم؛ أين الدولة مما يجري!؟

وفي غمرة الحوار الذي احتدم، تداخلت الآراء، اشتطّت وتباينت، بيد أنكّ كنت عاجزاً عن الاندماج والتواصل! ربما لأنّ عمرك المنقرض راح يهبّ زمناً أجوف تذروه الأيام، و لا شيء إلاّ قبض الريح، فأنت تريد عملاً حقيقياً، لا كلاماً عن العمل! عملاً يشعر المرء بعده بالتعب، فيلقي بجسده على الفراش لينام من غير كوابيس، بينما ينصرفون إلى معالجة المسألة في إطار هلاميّ، فيتحدّثون عن الدولة، ودور الدولة، واجباتها وحقوقها، متى قصّرت، وأين! كلُّ شيء مكّرر ومُعاد، وألمك الخاص يصدّع النفس، فتنأى ـ بها ـ عنهم، وتنسحب نحو الأعماق، نحو الفقرات الضائعة من تاريخك الشخصيّ! بعد قليل كنتَ تجد نفسك في الطريق مهاجراً أبدياً معمّداً بالتشتّت وانقسام الخلايا! ولأكثر من مرة تُفاجأ بجرمك على قيد خطوة أو أقل من سيارة استطاع سائقها أن يكبح جماحها في آخر لحظة، لأنك كنتَ تقطع الطريق ساهماً، وتسمع ذيل شتيمة أو تحذير أو معاتبة؛ فيما الأشياء تبهت، وتنشرخ ألفتها المستوطنة في العينين والقلب بحكم التعوّد، فتبدو الشقوق ـ التي كانت محطات التماسك تخفيها ـ جلية في جدران البيوت الكابية التي كنت تراها كلّ يوم! وتتساءل بحيرة!

أهي البيوت ذاتها، والشوارع، والأزقة!؟

كل شيء يلوح لك غريباً، صلفاً، ومنصرفاً لذاته، ذلك أن الجواب الذي تلقّيته ما يزال يحفر في الجوف ويؤلم، فتروح الأزمنة والأمكنة والألوان تختلط في شبكيّة الذاكرة، وتحسّ بأنك رأيتَ ما تراه الآن آلاف المرات، وأنّ ما يحدث لك حدث كثيراً من قبل، ربّما في أزمنة غير هذه الأزمنة، أو في حيوات أخرى؛ ويبدو لك مفهوم الزمان والمكان نوعاً من الوهم! وهكذا تظلّ الشوارع تستأثر بخطاك الحائرة عبر الدروب والأزقة والسكك ذاتها من غير أن تشعر، ثم لا تعود السيالة العصبية المُستفّزة تكفي لصدّ التعب، فتخور قواك، ويشهر الجوع سيفه، وعندها فقط تقطع الدروب نحو البيت سغباً، حاملاً وجعك لتصدى به!

- 3 -
حاملاً أملاً مبهماً عن غدٍ مورق، غدٍ أكثر ثباتاً؛ كنت تخرج من الدار كلّ يوم، ورغم أن ذلك الحلم لم يكن يستند إلى أساس واقعيّ ملموس، إلاّ أن الأعماق راحت تنتفض من تحت الركام، مبعدة عن الضلوع مرارة اليأس في محاولة منها للتماسك، أو الإرجاء، فمن يدري! أمّا من أين كانت الروح تستمد ذلك الافترار الغامض، فأنت لم تحاول أن تتفكّر في الأمر كثيراً، بيد أنك ترجّح أنها ربما كانت تمتح انفراجها من اليأس نفسه، لتقودك خطاك خلف ذلك الانفراج إلى مركز البلدة على أمل أن يختلف اليوم عن البارحة!

وعلى امتداد الساحات في تلك البلدان التي عُرفت ـ في ما بعد ـ بالعالم الثالث؛ أخذ الغرب يلملم حوائجه على عجل، ويرحل، فراحت الصحارى والكثبان والغابات العذراء تستفيق، وتنفض عن الجسد المُداس انتهاك الغريب وقسوته! كانت الدماء الزكية تكتب صفحات جديدة في تاريخ تلك البلدان، وتضمّخ أرضها الطاهرة بعبيقها! الآن ـ قالوا ـ يمكننا أن نبكي شهداء هذه الأرض، ونعيد كتابة اسمها في سفر العصر! ومن كلّ مكان راح صوت "عبد الناصر" ينساب عبر المذياع هادئاً، واثقاً، مستفيضاً في شرح دوافع العدوان وأهدافه، بينما أخذت الأحداث تتسارع بشكل يصعب معه التتبع! إذْ هاهي المدارس تغلق أبوابها مستنكرة اعتداء الدول الثلاث على المدينة التي استعصت عليهم، فامتلأت أزقة البلدة بالطلبة الذين أفلتتهم مدارسهم من عقالها، لينقسموا إلى مجموعات صغيرة تبعثرت هنا وهناك بحسب الجنس فعلى الواجهات الزجاجية المزدانة بالثياب الزاهية توزّعت الفتيات ثللاً أشبه ما تكون بباقات من الزهور، في حين تناثر الشبان من حولهنّ، وراحوا يتأملون الوجوه الشابة التي تشفّ بالروعة والحسن، والعيون الناعسة التي راحت تتطلّع إلى الدنيا بدهشة الاكتشاف! القامات مشيقة فيها هَيَف، والخصور ضامرة فيها خَوَص، والأرداف مثلما حقول القمح خصبة وناضجة! أنت الآخر كنت تنساق وراء الصدور الرجراجة،والأرداف العامرة بتوق، ومن مركز الرغبة كان السؤال يشيل!

هل سيكون لك خفراء مثلهنّ يوماً!؟

أيمكن لعالمك القاسي أن يتضوّع بذلك الشذا كلّه!؟واحدة كهذه الجميلة التي تغسل الرصيف أمام بابهم مثلاً !؟

أيّ قدّ هذا الذي راح يفصح عن الحدود المدهشة لمملكة الجسد التي تنغل في الدم!؟

بيد أن أوراق "اليانصيب" ما تني تذكّرك بنفسها، فتتثلمّ الأحلام،وتتكسّر تكسّر موجة وانية على شاطئ صخّري! وتظلّ الأزقة تلحقك بذيلها مُسيراً بقوة غامضة، باحثاً عن لاشيء، أو عن شيء تجهله! تلوب وتلوب إلى أن يهبط الليل، وتزنّ العضلات المرشومة بالتعب، فتعود إلى الدار متكدّراً هامداً! أمّا كيف وهنت رقابة الأعصاب في تلك الليلة، بحيث لم يعد التراجع ممكناً، فأنت لا تملك إجابة محدّدة، إذ قد يكون التعب آنَ يتجاوز العتبة هو السبب، وقد تكون حالة التشظّي الممسكة بجماع النفس، ذلك أنك كنت تروغ عن ذلك الجزء من شارع "الفردوس" عادة، لكنّ الفخ أطبق عليك هذه المرة، وإلى اليمين راح مكتب الحزب الشيوعي يرمي رشاشاً من الضوء نحو الخارج، فأخذت منابت النفس تنضح بحصار نفور، وطفقت الاندفاعات المختزنة في الأعماق تطفو على السطح؛ متأرجحة بين الرهبة والفضول! في البدء أنشأت محطة الرفض تتململ،فهؤلاء الناس يريدون تسليم البلد "للسوفييت"،ومع ارتفاع الهمس إلى تخوم اللغط راح شعورك يصّعّد إلى مرتبة الكراهية،ربّما لأنك ابن تربية زميّتة، وهؤلاء كفاّر لا يقيمون للدين وزناً، كما أنهم والغون في الإباحة! كان اللغظ المثار يضعك على حواف الإقياء،ويثير في بدنك القشعريرة، بينا الطيوف تجول في الرأس كأفراس برية جامحة، مسترجعة الخشوع اللامتناهي للمصلّين من ذاكرة الماضي! تواصل غريب مع المجهول المقدس يُستعاد من زمن الطفولة؛ آنَ كنت ترافق أبيك إلى مسجد القرية حيث الطهارة والنظافة والهدوء! شعور ثالث راح يتململ، ناقلاً العلائق إلى مدارات الفضول في محاولة لاكتشاف ما يمور تحت الجلد، إلاّ أنّ التردّد كان يكبح ذلك الشعور، تردّد يمتح ماءه من كلمات أبيك الفيّاضة بجرسٍ حادٍّ ما يزال يطرق جدار الذاكرة "أنّ من كفر بالله أُدخل جهنمّ، وساء مصيراً، وهل ترى نار المدفأة يا بنّي!؟ إذن، فلا تنسَ بأنّ نار جهنمّ أشدّ حرارة منها بمرات سبع! كلّما احترق جلد الكافر فيها، أبُدل بجلد آخر!" فيتزعزع أمانك الداخلي، ويتقوّض تقوضّ بيت متداعي الأركان؛ فاجأته ريحٌ زعزع!

ولكن، ألا نموت!؟

تسأل، فيجيبك أبوك:

ـ هناك لا نموت يا بنّي! هناك يُدخل الله المؤمن إلى الجنة ليتنعمّ فيها بما يشاء، ويعدّ للكافر عذاباً شديداً، إذ يخرجه من النار ليلقي به في نهرٍ من الجليد، ثمّ ينقله إلى جبل مُضرّس بالأدوات الحادة، ويلقي به من علٍ، فيتدحرج، وتنغرس المدى والشفرات في ظهره وخاصرته وبطنه وصدره!

يا الله!!

تنكمش العضوية في حالة دفاع لا إرادي عن النفس، وينتصب شعر البدن من هول الصورة، وما يكاد أبوك ينهي موعظته متفننّاً في رسم مشاهد التعذيب المُعدّة للكافرين؛ حتى يكون الخوف قد شلّ كلّ شيء فيك، فتنهض للصلاة خاشعاً مواظباً إلى حين! لكن الزمن ـ ذلك الغول المرعب الذي يأتي على كل بريء وجميل ـ يجد طريقه إلى الذاكرة، فتتراخى مواظبتك، تتحلّل، ورغم محاولات التذكّر التي تطلّ برأسها بفعل الخوف المتأصِّل في النفس، يؤازر الكسلُ والطفولة ـ التي تمجّ التكرار والواجب ـ ذلك النسيان، أو التناسي، إلى أن يكون لك مع أبيك موعد آخر!

وبسرعة ابتعدتَ عن المكان، ميمّماً وجهك نحو الجسر، بعد قليل كانت العتمة تغيّب خطواتك، فيما راح ظلّك يتطاول مع ابتعادك عن مصدر النور!

- 4 -
متشبّثاً بذكريات القرية الغافية على مرمى حجر من الحافة الشمالية للحدود السورية كنتَ، كما طفل وُلد في خوف الأزمنة، وظلّ راغباً في العودة إلى الرحم الآمن، فحينما يكون الحاضر لوحة قاتمة الألوان خارج شبكية الرغبة، والمستقبل مُضببّاً بحجاب من القلق والاهتزاز؛ لا يملك المرء إلاّ النكوص نحو الماضي الأثير بحثاً عن السويعات الآمنة المسروقة في غفلة من الزمن! ساعات طويلة كانت تمضي وئيدة وانية، وأنت مستلقٍ على ظهرك تستحضر ذلك الماضي لحظة بلحظة، لعلّ الصدع في النفس المكروبة يلتئم! لكن الطيوف لم تعد أماناً مُطلقاً، لا لأمر خارج عن إيقاع الحدث، وإنمّا لأنّ إدراكاً خفيّاً بدأ يطفو على السطح كبقعة زيت، ويتسّع كاشفاً سراب طمأنينتك الخادعة، إذ لم تكن القرية الجنة التي توهمتها! شبيه طعنة في سويداء القلب فاجأك الاكتشاف، فترنّحتَ، وإثر كلّ حوار مع ثلّة الشباب تلك كانت حصون الماضي ـ بالتتابع ـ تُدكّ، وتتهاوى، فتتشظّى بقعة أخرى من بقاع النفس، إثر انتقالها إلى مملكة المعرفة، أو الشك، أو الحدس المُبهم بأنّ ثمة شيئاً ما ليس على ما يرام! نهماً إلى التعلّم كنتَ، راغباً في معرفة المزيد، في تعلّم كلّ ما يحيط بك، ذلك أنك لم تكن تتصّور بأنّ المعرفة يمكن لها أن تؤلم!

ـ يشاع عنكم الكفر! أخبرني، أما تخشون عذاب الآخرة!؟

وجم "حسين" مُباغتاً بفجاجة السؤال، ثم استوعب الموقف المفاجئ، وانطلق في قهقهة مديدة!

ـ ما رأيك في أن نتمشّى قليلاً!؟

كان الأصيل يهبط فوق البلدة ببطء!

ـ أنتم في الأصل قرويّون، أليس كذلك!؟

أنْ نعم! هززتَ رأسك بدهشة، وأكمل!

ـ وأهل قريتكم يعملون في الزراعة!؟

وبماذا يعمل أهل القرى عادة!؟

هذا ما أرادت النفس المفاجأة بأسئلته الغريبة أن تجهر به، لكنك فضّلت أنْ تتروّى، فكفكفتَ مشاعرك في انتظار التتمة!




رد مع اقتباس
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ شموع الحب على المشاركة المفيدة:
 (05-18-2022)