01-30-2022, 11:02 PM
|
#4
|

رد: رواية مارد في صدري _1
- أتمنعك...؟
برغبة، وبلهفة قالت:
- أود ذلك... ستمنعني حتماً.
أخذت تصلح وضع الصفيحة فوق رأسها، وهي تشكرني على اهتمامي بها....
- سيأتي وقت أحضر فيه مجلس عمنا الشيخ "عبد الله"، فيه نتعرف على ديننا
- حاولي... استعطفيها... لا تيأسي... لعل، وعسى...
هزت برأسها وهي تقول:
- أن توافق... شيء مستحيل، ..مستحيل.
"سناء": آن لك أن تواجهي الخوف بإرادة... أخرجي نفسك من القوقعة، ... صبرت بما فيه الكفاية... الجئي إلى أبيك، نعم الجئي إليه.
ضحكت باستخفاف، وبصوت خافت كأنه ينساب من مكان قريب، قالت:
- هل يشعرني بكونه أباً لي؟
آه... لقد تأخرت، تأخرت... أخشى أن يحصل ما أتوقعه.
- حاولي أن تكتسبي ثقتها... ستلين حتماً، ستلين.
كان القلق واضحاً في نبرات صوتها، وهي تنطق بالعبارة الأخيرة، وتهرع بأنفاس لاهثة، .. كان لكلماتها صدى في نفسي... هل أخطأت بتصرفي هذا... هل نكأت جراحها..؟ أريدها أن تتغير، ولا أريد أن أفقدها كصديقة.
في المساء، بعد عودة أبي، قررت أن أحدثه عن حالها، ومن ثم أرجوه القيام بعمل أي شيء من أجلها... أكّد لي بصوت حاسم محاولاته العديدة، تارة باجتماعه مع أبيها لتحريك عاطفة الأبوة تجاهها، وتارة بعرض المساعدة المالية... للأسف لم ألق منه أي استجابة، ويزعم أن مخالطتها للناس تؤدي إلى إفسادها، وجعلها تثور على من في البيت... لن أستطيع يا ابنتي أن أفعل شيئاً... يبدو أنه قد اصطنعها لزوجته وأولادها.
قلت في نفسي:
- خادمة؟..
ليس بهذه الطريقة المتوحشة، بالضرب، والشتم، والركل بالقبقاب، وشد الشعر.
زفر والدي بضيق، وسألني:
- هل حدثتك بشيء من ذلك؟
- بل بأكثر منه، بحرمانها من الطعام أحياناً كعقاب، وفي الأحوال العادية لا تنال إلا ما فضل من إخوتها.
- أف، ما أغبى أباها!! هل هو غافل عما يجري لابنته؟
ثم أردف:
- احتفظي بصداقتك معها.
اسمعي يا ابنتي، لا داعي لشعورك المستفيض هذا، لسوف تنتهي الأمور إلى الأفضل بإذن الله.
عرفت فيما بعد ذلك، أن والدي يرافقه رجال صالحون، التقوا بأبيها، وأبدوا استعدادهم لدراسة وضعها، ولكنه كان يعتبر ذلك إهانة له، واتهامه بالتقصير، والتدخل في شئون أسرته... عجزوا، رغم ما بذلوه من جهد في سبيلها.
احتضنت "سناء" في أعماقي وأنا أراها عند أب متحجر يضربها من غير سوط، وامرأة مجرمة تضربها بكل سوط، وأيامها تسحق بين دفتي رحى.
ذات يوم ونحن نسير معاً، شعرت بضيق نفسها، فقلت:
- الحياة عجلة مزودة بالعصي، ماذا نفعل كي نستمر في المضي؟
بسرعة أجابت، وهي تضحك:
- نزيل العصي، لكن.. من يدري.. قد ننجو، وقد نعجز أحياناً.
قلت بجد:
- لا بد من تحرير الذات من القلق، والخوف، والسعي لإزالة العقبات، والاتكال على الله سبحانه.
فكرت برهة، ثم بحزم قالت:
- سوف أغامر مهما كانت الطريق طويلة.. أكيد.. ستقصر، وتسهل..
كانت الشمس فوقنا متوهجة عند الظهيرة، قلت لها:
- ستقودنا الشمس قريباً إلى الظل.. هكذا الحياة يا عزيزتي.. ستقودك إلى الفرج.
كانت سناء تعاني الكثير في أمور كثيرة، أشدها التفريق في المعاملة بينها وبين إخوتها، وحرمانها من التعلم في المدرسة، وصحبة الصديقات، وأشياء كثيرة، كأنها تعيش في دنيا غير دنياهم، ولا يدري أبوها عنها شيئاً، ولم تفكر هي في مكاشفته بالأمر.
كانت الأيام تكر، وتتسع، وسناء تنمو، وتتفتح كزهرة عبقة في حميم من جحيم... كنا في الطريق المؤدي إلى شاطئ البحر، حين بثت لي لواعج نفسها، وعبرت عن شدة حاجتها إلى أمها، وتأوهت وهي تشكو قلة اهتمام أبيها بها، وقالت في ألم:
- لم أعد صغيرة، نفسي تتوق إلى ما يبهجني كغيري من النساء الصغيرات، إلى المعاملة الطيبة، والثوب الجديد، والحذاء ذي الكعب و..
- اطلبي من أبيك ما ترغبين.
هزت رأسها بانفعال:
- لا.. لا أتجرأ على ذلك.. ولا أتجرأ حتى إلى التحدث معه، و...
- شيء مؤلم حقاً.
كيف حالك هذه الأيام مع زوجة أبيك؟
- إنها تستفزني بلا مبرر، ..تغضبني جداً.. تدفع بي إلى الجنون.. أضغط على أعصابي، وأستعيذ بالله.
- هدئي من روعك، لا تقلقي، كيلا يزداد الأمر سوءاً.
- هذا ما يحصل بالفعل... الوقت لا يتسع لأشرح لك كل شيء.
توقفنا برهة عن الحديث، بابتسام، وبصوت هادئ سألتها:
- هل تنظرين إلى نفسك في المرآة؟
ضحكت، وهي تقول:
- أحياناً.. بل كثيراً.
- ما أكثر شيء يعجبك فيها؟
- عيناي.
- لماذا؟
- لأنها تذكراني بأمي.
- وشعرك بماذا يذكرك؟
- بالليل.
- هل تحبين الليل؟
- نعم، فيه راحتي، وتأملاتي.
- والنهار؟
- آه من النهار! تتورم فيه قدماي من التعب.
رأيت الألم يزداد عمقاً في عينيها، فقلت بعطف شديد:
- لا أريد أن أزيد في آلامك.. ولكنها أسئلة.. مجرد أسئلة قصيرة.
أردت أن أدخل البهجة إلى نفسها، فقلت:
- لك عندي مفاجأة، آمل أن تروقك.
بلهفة سألتني:
- ما هي؟
- احزري.
- أكره الألغاز.
- إنها كتب صغيرة، رائقة، آمل أن تعجبك، سأحضرها لك.
استجاش ذكر الكتب نفسها، لمعت عيناها، وفاجأتني بقولها:
- هل تعلمين بأني لا أدع كتاباً لإخوتي إلا أقرأه، بل وأساعدهم في فهم ما يقرأون.
بدهشة قلت:
- إنك تكبرين يا سناء، وينمو معك إحساسك بالحياة، وتذوقك للقراءة وتتدفق مشاعرك بالألم، والضيق، والحنين، والحزن، وغيرها.
أيمكنني القيام باقتراح؟
- ما هو؟
- أن تسجلي مشاعرك، وأفكارك على الورق.
بسرور قالت:
- أنا أفعل ذلك، أفعل دائماً.
- جميل جداً، آتيني بها كي أعرضها على أختي هيفاء، وكما تعلمين، هي مدرسة في تجهيز البنات، وتشجع الطالبات على الكتابة.
بهدوء قالت:
- سأريك أشياء كثيرة أحتفظ بها.
في صباح يوم ربيعي، كان الجو صافياً، والشمس مشرقة، والهواء منعشاً، حين استيقظت "سناء" متأخرة على غير عادتها، كان البيت هادئاً، وخالياً من صخب إخوتها وضجيجهم، تذكرت حديث زوجة أبيها مع أولادها أمس، تعدهم بزيارة خالتهم غداً، في إحدى ضواحي البلدة، لقضاء النهار عندها... تفقدت أركان البيت، وقامت بكل ما يلزم... تناولت الإفطار بهدوء، ولكنه ظاهري، إذ أحست بالوحشة، بحثت عن وسيلة للهرب منها... تفتحت نفسها على شيء كان مكتوماً... تنهدت بارتياح، إنه الحرية.. الحرية التي تفتقدها.. أخذت تجري هنا، وهنالك، في الليوان بين أصص الزهر، وفي الحوش، وتدور حول شجرة النارنج، وتقفز بالحبل، وتنتعل حذاء زوجة أبيها ذا الكعب المرتفع، وتغني بصوت عال... قامت بأشياء غير مألوفة لديها، لم تكن لتجرؤ على فعلها في يوم من الأيام... تأوهت وهي تتنسم بارتياح عبق الحرية... ثم وقعت نظراتها على بعض الكتب والمجلات، هتفت بلهفة:
- الآن بمقدوري أن أقرأ بصوت عال.. لا أحد ينهرني، أو يقطع علي متعتي.
لم يكن في البيت سوى هرتها التي لمعت عيناها، وهي ترى "سناء" على غير المألوف.. أخذت تجري بجريها، وتموء مع غنائها، وإن جلست تمددت بقربها، وهي تهر بنغم رقيق.
باطمئنان حدثت نفسها:
- من يدري... سأمرح كما أشاء، وأقرأ كما أشاء، وفي أي مكان أريد، إنه يوم حريتي.. آه.. ما أجمل الحرية.. كم أنا بحاجة إلى تغيير حياتي، وأن تعينني نفسي على نفسي!!
أشرق وجهها بالابتسام وهي تهرب من الخوف الذي يسكنها، وتتعرى من القلق، وتقبل على الكتاب بلهفة.
كانت القراءة تغمرها بمتعة عميقة، ولذة كبيرة، وتستسلم إلى هذا الشعور بسرور.. الفضاء ممتد أمامها، وزهرات النارنج تفتحت ليلاً، تنشر عبيرها في الدار.. لم تكن تحس بمثل ذلك في الأيام الخوالي إلا لماماً، كانت في شغل دائم في النهار، وقيود لا تجرؤ على كسرها.. وفي المساء تلجأ إلى زاويتها وقد نالها الإنهاك.
في هذا اليوم وهي تقرأ، انطلقت وراء الأفكار المنبعثة من الكلمات، ومن بين السطور، ثم تعتريها الدهشة عندما تحس بتوقدها في ذهنها.. كم كانت تحلم بذلك لتتعرف على نفسها من خلال القراءة، وتتعرف على الناس في طباعهم وأخلاقهم، وتعيش مع الأحداث والأزمات التي مرت ببلدها الصغير، ووطنها الكبير زمن الاستعمار قبل مولدها، كان سمعها يخطف بعض الأحاديث من العجائز حين يجتمعن في أرض الحوش مع زوجة أبيها، فيشوقها التعرف إلى الماضي.. تاريخه، معاناة الشعب، فوجدت في القراءة ما تصبو إليه.
تفقدتُ "سناء" هذا اليوم، لم أشاهدها كالمعتاد في الطريق إلى البئر، علمت من جارتنا "أم مصطفى" أنها في البيت وحدها، استأنست بالخبر، فاجأتها بزيارتي.. رأيت البشاشة تبرق في عينيها، وتطوف على وجهها، قد سرحت شعرها بعناية بضفائر ألقتها على ظهرها، والكتاب بشغف تضمه بين يديها، فازدادت سروراً بلقائي.
|
|
|
|
_______________________
________________
والله لو صحب الإنسانُ جبريلا لن يسلم المرء من قالَ ومن قيلا َ
قد قيل فى الله أقوالٌ مصنفة تتلى لو رتل القرآنُ ترتيلا َ
قالوا إن له ولدًا وصاحبة زورًا عليه وبهتانًا وتضليلا َ
هذا قولهمُفي.. الله خالقهم
فكيف لو قيل فينا بعض ما قيلا ..
***
انا زينـــــــــــــه

|
3 أعضاء قالوا شكراً لـ رحيل المشاعر على المشاركة المفيدة:
|
|
|