01-30-2022, 11:00 PM
|
#3
|

رد: رواية مارد في صدري _1
- ما بك، هل أخطأت؟
بقيت صامتة، ومطرقة، غيرتُ وجهة الحديث، تشاغلت بالقطة التي أقبلت نحوها، تتمسح بأقدامنا، وتصدر هريراً ناعماً، ثم ابتعدت عنا، قلت بابتسام:
- يبدو أنها شبعت، واسترخت، فاستلقت في ظل الصخرة.. ناديت سناء وأنا أتوخى الحذر.. لم تجب، ولم ترفع عينيها، ثم بلعت ريقها، قلت: هل نسيت اسمها في هذه اللحظة، أم أنها تذكرت لحظات القهر، حين يسبق اسمها بما يشينها، ويذلّها، عندما تناديها زوجة أبيها بازدراء: يا بنت، أنت يا بنت يا سناء.
بدا لي أني أحرجها بثرثرتي، وكثرة أسئلتي، رغم توخي الحذر الشديد، فكرت بأن أشيع السرور في نفسها، وبعجب قلت:
- شعرك يا "سناء" طويل، ناعم كالحرير، ما أجمله؟
جففت كفيها بثوبها، ولامست بهما شعرها، تنبهت إلى وجود شيء جميل لديها، كانت تجهله، ابتسمت وتنهدت.
قلت ثانية:
- ما أوسع عينيك، وما أكثف أهدابهما؟!!
شعّ بريق فيهما، فأسبلت جفنيها باستحياء، ثم رفعتهما بصوت هامس، رافقته ابتسامة عذبة، قالت:
- عيناي تشبهان عيني أمي.. هكذا يقولون.
شعرت باستدراجي يؤتي أثره، في بسمتها، وانطلاقها في الحديث.. طمحت بأن أتغلغل في نفسها أكثر فأكثر.. تذكرت كلام المرأة الشرسة في أحد الأيام وهي تقول بحدة:
- اغربي عن وجهي يا ابنة السوء، وارحلي إلى أمك التي تركتك بلاءً عليّ.
أردت التأكد مما سمعت، سألتها بصوت خافت:
- ألك أم يا "سناء"؟
أومأت برأسها.. ثم أردفت وهي تتنهد:
- طلقت من أبي وأنا في الخامسة من عمري.
وقالت بامتعاض وهي تشير بيدها:
- غادرت من البلدة إلى لبنان، وكما قالوا: تزوّجت وأنجبت بنين وبنات.
- هل تلتقين بها؟
- أبداً، منذ ذلك الزمن البعيد لم أرها.
- وتعيشين..
- مع أبي، وزوجته، وإخوتي من أبي.
- كثيرون هم؟
- خمسة.
لم أشأ أن أسترسل في الحديث أكثر من ذلك، ضاق صدري، شاركني الصمت.. دعوتها إلى مشاركتها في شطيرة الحلوى، هزّت برأسها يمنة ويسرة، خشيت أن أجرح إحساسها، فلم ألحّ عليها.
شعرت بأشياء في داخلها يتحرك، تريد التنفيس ولكنها تردّها بإرادة، جلستُ القرفصاء، اتخذت من إصبعي قلماً، وخططت في الرمل "سنا" كانت تراقبني وأنا أرسم الكلمة، دنت مني، ورسمت الحرف الناقص "ء" صحت بدهشة:
- "سناء" هل تكتبين؟!
مع مسحة من الحزن مشوبة بفرحة غمرت وجهها، أجابت:
- وأقرأ أيضاً.
- كيف، فلا أراك تذهبين إلى المدرسة؟!
بحسرة قالت:
- في صغري جعلتني أمي عند الشيخة "بدرية" علمتني سوراً قصيرة من القرآن الكريم، وشيئاً من القراءة والإملاء، وبعد الطلاق والرحيل، منعتني زوجة أبي من الاستمرار في التعلم، وملء الماء من بئر الحارة، والخدمة في البيت.
- وهي، هي ماذا تفعل ماذا؟
- تحمل، وترضع، وتطبخ، وتأمر وتنهى.
ابتلعت غصة علقت في حلقها، وزفرت من ضيق.. ثم لمحت بريق أمل أضاء وجهها، وبضحكة عفوية قالت:
- إني أتعلم القراءة والكتابة من إخوتي، دون علم منها.
- كم أنت نبيهة، وذكية يا "سناء" لقد أدخلت السرور في نفسي.
بسرعة سألتني:
- هل تحبين الدراسة؟
- جداً وبولع شديد.
يمكنك يا "سناء" أن تعوضي ما فاتك بالمطالعة، والدراسة في كتب إخوتك، ومراجعة ما تعلمت من سور القرآن.
بفرح قالت:
- أقرأها باستمرار، وأحفظها غيباً، وأرددها في الصلاة.
قلت بإعجاب:
- ما شاء الله.. الحياة تكون موحشة وكئيبة من دون إيمان.
تأثرت بما أقول، بكت بصمت، ثم كفكفت دموعها، وهمست بحيرة وشكوى:
- لا أدري لم تعاملني زوجة أبي بقسوة، فما اقترفت.. وما أسأت، ومن حين إلى آخر كانت تزيح بيدها خصلات من شعرها عن وجهها، فتبدو أهدابها الطويلة، وتختلج في اضطراب كأنها تفكر، وكأن فكرها هو الآخر يضطرب وراء تلك الأهداب.. قلت:
- أرى الوحدة والاستسلام الحزين في عينيك.
ترددت قبل أن ترد بوداعة وهي تبتسم، وبصوت خافت كأنها تحدث نفسها:
- أحد عشر عاماً وأنا في عزلة عن الناس، فرضت علي، لا يحق لي فعل شيء أرغب فيه إلا باستئذان.. حياتي مملة، يائسة، لا شيء فيها يسرني.
- الأيام تكبر، وأنت تكبرين، كبرعم يتفتح ليلاً..
- كيف؟
- بالقراءة والكتابة، والتفهم لمعاني القرآن.. تفاءلي، ولا تنظري إلى الحياة بيأس.
- وأنا في الظلمة؟
- بل بإيمانك بالله الذي يسكن في قلبك، وينور دربك، اقرئي قوله تعالى: )الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور(.
تهلّل وجهها وهي تقول:
- صدق الله العظيم.
- المسألة فقط مسألة وقت.
ابتسمت وأنا أتذكر قول والدي، أعدته على سمعها:
- (الأيام ثمينة، تكر من بين أيدينا، استمتعوا بحياتكم بما يرضي الله)..
قالت بمرارة:
- وأنا بين مخالب القهر والحرمان؟
قلت بحرارة:
- أسرقي لحظات المتعة مع نفسك، بصلتك مع الله بالعبادة والمناجاة، لا أحد يستطيع أن يخطفها منك، مهما أوتي من بطش وقوة، ستزدادين معرفة بحقوقك، وواجباتك وأنت مقبلة على كتاب الله.. تحتاجين إلى الصبر والمثابرة.. الحياة لا تصنعنا، نحن من يصنع الحياة، حين نغير ما في نفوسنا فتتغير.
- كيف؟
- بالهدف، نتتبعه، بإرادتنا وعزيمتنا.
أومأت برأسها وهي تقول:
- أجل، أجل.
- أتريدين المزيد؟
إن مياه النهر تتدفق إلى البحر، فتذهب هدراً، فمن يهدر مواهبه ووقته فهو إنسان أحمق.
قالت والقلق يشوب كلامها:
- الحياة قاسية، قاسية جداً.
- نحن الذين نزرع القساوة في الحياة، هي مزرعة خصبة، ينمو فيها ما نلقيه إليها من أشواك ورياحين، من شر ومن خير.
كنتُ أثرثر بلا هوادة، ونفسي ترغب في الاستزادة.. نهضت وهي تنظر إلى الشمس، وتقول:
- لديّ موعد.
- مع من؟
- مع بئر الحارة، كي أحضر الماء.
ضحكنا..
- أشعر بالوقت يجري بسرعة، ولا أريد لك مزيداً من المشكلات مع زوجة أبيك، ولقد سررت بلقائك، سنكون صديقتين.
- سنكون صديقتين.. وإلى الأبد.
أطرقت ويدي تعبث بالرمل، وخواطري تتجاذبني.. لم أحس بسناء وهي ترفع الطست فوق رأسها وتنسل بهدوء.. تنبهت، لامست نظراتي قامتها الممشوقة وهي تسير بتأن فوق الرمل، تغرز قدماً وترفع أخرى.
كانت النزهة رائعة، وكسباً لصداقة طالما تمنيتها، فشعرت وكأني أطير من السعادة.. لملمت أشيائي ببلادة، وصوت أبي ينادي إخوتي المبعثرين فوق الشاطئ ومن البحر.
استدرت نحو الشمس، وقد غاصت وراء الأفق، والظلام يزحف ببطء يلتهم الأنوار والألوان، وغاص في أعماقي الحدث، ومشاعري تلتهم آثاره.
رافقتنا النسمات الندية، تربت على وجوهنا مودعة.. وتراءت لي سناء في جوها المكبوت بالوحدة، لا رحمة فيه ولا شفقة، مع أب ضعيف الشخصية، ينقاد لأهواء زوجته، ويصدقها في ادعائها الضعف والمسكنة.. ولمست في "سناء" لطف الحديث، وعزة النفس، والنباهة، وحسن الاحتيال في خطف التعلم من إخوتها، وكتبهم المنسية المهملة.
لقد مارست التآلف مع الأشياء، بما يخدم مصلحة أسرة أبيها، ويبدو أنها لا تقدر أن تعقد الأُلفة مع العالم المحيط بها، يحجزها التسلط الجبري، وتخشى إن حاولت أن يرفضها، أو ترفضه.
كان الوقت ضحى، والهواء منعشاً لطيفاً، حين رأيت نفسي تنساق إلى بيت "سناء"، وقفت برهة عند الباب أتأمل البيت من الداخل من خلال تفاريج فيه، شاهدت الحوش مرصوفاً بحجارة ملساء، يبرز العشب من حوافها بشكل عفوي بديع... وفي وسطه تنهض شجرة نارنج، تمتد أغصانها، وترخي ظلالها، ومن بينها تتدلى ثمارها... امتد نظري إلى الليوان، تحيط به الغرف، وتزينه أصص الأزهار المتنوعة.
طرقت البات... سمعت المرأة ترد بصوت مسترخ:
- مين على الباب؟
- أنا
- من أنت؟
- ....
سحبت المزلاج... أطلت بوجه مطلي بالألوان، وقد زينت رأسها بزهرات من الفل، والياسمين... نظرت باستنكار، سألتني:
- ماذا تريدين؟
- "سناء"، أنا صديقتها.
قهقهت باستخفاف وقالت:
- متى كان لـ"سناء" صديقة... ما عندنا صديقة لك.
أغلقت الباب، بصوت مرتفع حدثت نفسها:
- عال، والله عال، البنت "سناء" صار لها صديقة...
وباستفزاز نادتها:
- ألم أقل لك يا بنت ممنوع الكلام مع أحد.. من البيت إلى البئر، ومن البئر إلى البيت... من البيت إلى البحر، ومن البحر إلى البيت؟
كم حذرتك!!
تحتاجين العقاب، والتربية.
وسمعت الشتائم تنهال عليها، وأنا لا أزال في وقفتي... أرسلت نظري عبر التفاريج، .. شاهدت المعركة من جانب واحد، فيما الصفع وشد الشعر، وسناء تتكور فوق الأرض، تحتمي بجذع الشجرة، تحاول أن ترد عنها الأذى، وهي تقول بصوت خافت:
- التقيت بها مصادفة عند الشاطئ... ما كنت أقصد هذا.
كانت تقدم الاعتذار برقة، ... وتتفادى الضرب.
في أثناء الطريق غمرني إحساس بالعطف الشديد على "سناء" المحرومة من حنان الأبوين، التي لا تجد رفيقة تؤنسها... وتسببت لها بالأذى، عدت إلى البيت، وأنا أعتقد بأن ما رأيت، وسمعت، شيء فظيع لا يحتمل... لم أتجرأ بعد ذلك اليوم من الاقتراب من بيتها، ولكني ظللت أتوق لمشاهدتها.
في ساحة الحارة، عند البئر كنت ألتقي معها... تعرفت على بائسات وهن يملأن من ماء البئر... رسمت في مخيلتي البيئة، كانت أشبه بلوحة رسمت عليها حياة كثير من البائسين، وسناء. واحدة منهم، بؤسها في قساوة أبيها، وفظاظة زوجته... لكن سناء كانت تجد الحصانة في الغض، والتناسي، والتسامح، وتستنكر من المرأة التي لا تجد الحصانة من الكره، والحقد في حبها لسناء ورعايتها لها.
تكرر لقائي "بسناء" في الحي، وفي الزقاق، وتحت القنطرة، وعند البئر، وحين نكون في نزهة عند الشاطئ... صارت الصفيحة فوق رأسها كجزء منها، وخطواتها أكثر انسجاماً مع نتوءات الحجارة. وشعرها لا يزال ينهدل على جانبي وجهها... كنا نتحدث وعيوننا تراقب المكان، قد يشي أحد ما إلى زوجة أبيها، وتقع سناء في ورطة.
في أحد الأيام، عند الشاطئ، قلت لها:
- إنني أنتوي الذهاب غداً إلى المسجد، لأحضر درس عمي الشيخ "عبد الله"، أتمنى أن تذهبي معي، لا نطيل البقاء، مجرد ساعة لا أكثر.
باستغراب قالت:
- كيف يكون موقف زوجة أبي لو علمت بالأمر؟ |
|
|
|
_______________________
________________
والله لو صحب الإنسانُ جبريلا لن يسلم المرء من قالَ ومن قيلا َ
قد قيل فى الله أقوالٌ مصنفة تتلى لو رتل القرآنُ ترتيلا َ
قالوا إن له ولدًا وصاحبة زورًا عليه وبهتانًا وتضليلا َ
هذا قولهمُفي.. الله خالقهم
فكيف لو قيل فينا بعض ما قيلا ..
***
انا زينـــــــــــــه

|
2 أعضاء قالوا شكراً لـ رحيل المشاعر على المشاركة المفيدة:
|
|
|